08 ديسمبر (كانون الأول) 2025 – قضت الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الإرهاب بمحكمة الاستئناف بتونس، اليوم الاثنين 08 ديسمبر 2025، بالحطّ من العقوبة السجنية المسلَّطة على طالب الطب محمد جهاد المجدوب من عشر سنوات إلى عامين، وتقليص مدة المراقبة الإدارية من خمس سنوات إلى سنة واحدة، مع الإبقاء على مبدأ الإدانة. وباحتساب مدة الإيقاف التي بدأت في 26 سبتمبر 2023، يُفضي هذا الحكم عمليًا إلى الإفراج عنه بعد قضائه نحو عامين وثلاثة أشهر رهن الاحتفاظ والسجن.
وكانت المحكمة الابتدائية قد أدانته في ماي 2025 بعشر سنوات سجنًا وخمس سنوات مراقبة إدارية بموجب قانون مكافحة الإرهاب، قبل أن يُعاد النظر في الملف استئنافيا ويُخفف الحكم إلى الحدّ الأدنى، بما يغطيه فعليًا زمن الإيقاف التحفظي.
عرض الوقائع:
وُجّهت إلى محمد جهاد المجدوب، البالغ من العمر 21 سنة والمسجل بالسنة الثالثة بكلية الطب بصفاقس، جملة من التهم ذات الصبغة الإرهابية، من بينها:
العزم على الانضمام عمدًا إلى تنظيم أو وفاق إرهابي داخل التراب التونسي أو خارجه.
العزم المقترن بأعمال تحضيرية للقتل وإحداث الجروح وأعمال عنف والإضرار بالممتلكات العامة والخاصة.
محاولة الالتحاق بعناصر إرهابية بجبل الشعانبي.
وقد قسم الحكم الابتدائي العقوبة إلى خمس سنوات من أجل “الانضمام عمدًا إلى تنظيم إرهابي وتلقي تدريبات”، وخمس سنوات إضافية من أجل “العزم المقترن بعمل تحضيري على القتل وأعمال العنف”، دون أن تُثبت المحكمة وجود فعل مادي محدّد أو مشروع عملي لارتكاب جريمة، بل استندت بالأساس إلى قرائن ظرفية وتأويلات أمنية لنوايا المتهم وأنشطته الشخصية.
أما الحكم الاستئنافي الصادر اليوم فقد أبقى على الإدانة، لكنه خفّض العقوبة إلى سنتين سجنًا وسنة مراقبة إدارية، وهو ما يعني عمليًا الإقرار بأن العقوبة الابتدائية لم تكن متناسبة مع عناصر الملف، دون أن يذهب إلى حد إلغاء التتبع أو إسقاط التهم.
خلفية القضية:
محمد جهاد المجدوب طالب متفوّق، يمارس الرياضة بانتظام، ويشارك في مسابقات الشطرنج، ويهوى التخييم والتنقل في المناطق الجبلية والطبيعية داخل البلاد. في أواخر سبتمبر 2023، توجّه إلى ولاية القصرين لزيارة أحد أصدقائه وقضاء بعض الوقت هناك. وبسبب عدم توفر مكان للمبيت تلك الليلة، اختار قضاء الليل في مقهى قريب من مركز أمني في الجهة في انتظار وسيلة نقل.
تفطّن أعوان الأمن إلى وجوده باعتباره “غريبًا عن المنطقة”، فتمّ إيقافه وتفتيشه دون إبراز إذن قضائي. عُثر بحوزته على قميص صلاة ومصحف صغير كان يحمله معه، وهي مقتنيات شخصية استُخدمت لاحقًا ضمن بناء “الاشتباه”، في سياق تأويلات ربطت بين مظهره الخارجي (اللحية) وعلامات التديّن وبين “شبهة التطرف”، مما يحيل على تمييز أمني وقضائي واستهداف قائمين على المظهر والانتماء الديني المفترض.
كما تم حجز هاتفه الجوال، وتثبيت تطبيق “تيلغرام” عليه دون موافقته، بحثًا عن مؤشرات رقمية على أي صلة مزعومة بتنظيمات إرهابية. ولم تُسفر المعاينة عن أي تواصل مع جهات مسلّحة أو تخطيط لعمليات عنف، باستثناء متابعة بعض القنوات الدينية، ورغم ذلك تم إعلام فرقة مكافحة الإرهاب ونُقل محمد جهاد بسرعة إلى العاصمة لمواصلة البحث معه.
الانتهاكات أثناء البحث والاحتجاز:
وفقًا لشهادات والدفاع ومستندات الملف، خضع محمد جهاد لتحقيقات مكثفة في وحدة مكافحة الإرهاب شابتها خروقات خطيرة، من بينها:
تعرضه للهرسلة والضغط النفسي والتعنيف والترهيب لانتزاع اعترافات، في انتهاك واضح لحظر التعذيب والمعاملة القاسية أو المهينة الذي يكفله الدستور التونسي والمواثيق الدولية.
عدم إشعار عائلته بمكان وجوده خلال الأيام الأولى من الإيقاف، ومنعه من الاتصال بذويه، ما جعله فعليًا في وضعية احتجاز سري يناقض أبسط ضمانات الحرية والأمان الشخصي.
تفتيش هاتفه ومداهمة منزله بمدينة مساكن وتحويل أغراضه الشخصية إلى “قرائن” ضده، من بينها سترة رياضية ثقيلة يستعملها للتدريب البدني جرى اعتبارها في البداية “سترة واقية من الرصاص”، قبل أن يثبت تقرير الخبرة بعد أشهر أنها سترة رياضية لا علاقة لها بالمعدات العسكرية.
هذه الممارسات تمسّ بوضوح من حقه في الخصوصية وحرمة حياته الخاصة ومسكنه، وتكشف ميلًا لتوسيع الاشتباه عبر قراءة أمنية متعسّفة لكل ما يتعلق بمظهره واختياراته الشخصية (مصحف، قميص صلاة، سترة رياضة، تنقل إلى منطقة داخلية بقصد التخييم).
المحاكمة والعقوبة الابتدائية:
حُوكم محمد جهاد أمام الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الإرهاب عن بُعد عبر تقنية الفيديو، دون حضوره فعليًا في قاعة الجلسة. ورغم اصرار الدفاع بغياب الأدلة المادية القاطعة وطلب إجراء تفريغ شامل لمحتويات الهاتف وإثبات الطابع السلمي لتنقلاته وهواياته، صدر الحكم الابتدائي في 20 ماي 2025 بإدانته والحكم عليه بعشر سنوات سجنًا وخمس سنوات مراقبة إدارية.
ويشير المرصد، الى خلو الملف من:
ضبط لأسلحة أو متفجرات أو معدات يمكن أن تُستخدم في أعمال عنف؛
أي قائمة أهداف محتملة أو مخطط فعلي؛
أي علاقة مع تنظيم إرهابي بعينه أو خلية قائمة.
وبذلك استند الحكم أساسًا إلى “نوايا مفترضة” وقرائن ظرفية وتأويلات موسّعة لنشاطاته العادية، بما يتعارض مع مبدأ الشرعية واليقين في الإدانة الجزائية.
ظروف السجن والمعاملة داخله:
منذ إيداعه بسجن المرناقية، واجه محمد جهاد أوضاع احتجاز متدهورة، من بينها:
الاكتظاظ داخل الزنزانة، ووجود عدد كبير من المدخنين رغم معاناته من ضيق في التنفس وحساسية من الدخان.
الإصابة بمرض الجرب بسبب ضعف شروط النظافة والرعاية الصحية.
نقله للعزل الانفرادي في أكثر من مناسبة دون أسباب واضحة، ومنعه من زيارة عائلته مرات متكررة، في خرق لحقه في التواصل مع أسرته.
وتتعارض هذه الظروف مع قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (“قواعد نيلسون مانديلا”)، ومع الالتزامات القانونية للدولة في ضمان معاملة إنسانية تحفظ كرامة المحتجزين.
موقف مرصد الحرية لتونس:
يرى مرصد الحرية لتونس أنّ قضية محمد جهاد المجدوب تُجسد مثالاً واضحًا على سوء استخدام قوانين مكافحة الإرهاب في ملاحقة أشخاص استنادًا إلى مظهرهم الديني أو أنشطتهم الشخصية السلمية، وعلى أساس قرائن ظرفية وتأويلات أمنية بدل أدلة مادية قاطعة. كما تكشف القضية عن مخاطر الاحتجاز السري المؤقت، والتفتيش دون إذن قضائي، وتحويل أغراض دينية أو رياضية إلى “أدلة” على نوايا إرهابية مفترضة.
ويرحّب المرصد بتخفيف العقوبة والإفراج عن محمد جهاد بعد عامين وثلاثة أشهر من الإيقاف، لكنه يعتبر أن هذا التطور، رغم أهميته، لا يمحو الانتهاكات الجسيمة التي شابت مسار القضية منذ لحظة الإيقاف، ولا يغيّر من حقيقة أنّ الأصل كان يفترض ألا يُسجن طالب طب بهذه المعطيات أصلاً.
يطالب مرصد الحرية لتونس بـ:
– إعادة الاعتبار الكامل لمحمد جهاد المجدوب، بما في ذلك تمكينه من مواصلة دراسته الطبية وتعويضه عن الضرر المعنوي والمادي الناتج عن الإيقاف المطول والعقوبة غير المتناسبة.
– فتح تحقيق مستقل وفوري في ادعاءات التعذيب وسوء المعاملة والاحتجاز السري والتفتيش التعسفي التي تعرّض لها، ومحاسبة كل من يثبت تورّطه في هذه الانتهاكات.
– مراجعة منهجية تطبيق قانون مكافحة الإرهاب لضمان عدم استعماله في ملاحقة أشخاص استنادًا إلى المظهر أو التدين أو الهوايات، وإعادة الاعتبار لمبدأ الشرعية والتناسب في التجريم والعقاب.
– تحسين ظروف الاحتجاز في السجون التونسية، ومعالجة مشكلات الاكتظاظ والرعاية الصحية والنظافة، وضمان احترام حق السجناء في الزيارة والمعاملة الإنسانية طبقًا للمعايير الدولية.
– ضمان أن تكون مكافحة الإرهاب متوافقة مع حقوق الإنسان، وألا تتحول إلى مظلة لتكريس التمييز أو الاحتجاز التعسفي أو انتهاك الكرامة الإنسانية، وأن تبقى قرينة البراءة حجر الزاوية في كل محاكمة جزائية.




