مقدمة:
تشهد تونس حملة غير مسبوقة تستهدف منظمات المجتمع المدني وجمعيات حقوقية بارزة، تمثّلت في قرارات إدارية بتعليق نشاط عدد من الجمعيات لمدة 30 يوماً وتجميد حساباتها البنكية. وتشمل هذه الحملة جمعيات نسوية وبيئية وشبابية وإعلامية، مما أثار مخاوف جدّية بشأن تراجع حرية التنظيم وتقلّص الفضاء المدني الذي كان إحدى أهم مكتسبات ثورة 2011. وتبرّر السلطات هذه الإجراءات بالحاجة إلى التدقيق في التمويلات الأجنبية وفرض الشفافية، لكن منظمات حقوقية تعتبرها تعسّفية وتهدف إلى إسكات الأصوات المستقلة المنتقدة للسلطة. في هذا التقرير، نستعرض الجمعيات المستهدفة بهذه القرارات، والأساس القانوني المنظّم لعملها (مرسوم عدد 88 لسنة 2011)، إضافة إلى مختلف التضييقات التي طالت المجتمع المدني والمنظمات الوطنية والأجسام الوسيطة في تونس.
الجمعيات المستهدفة بتعليق النشاط وتجميد الحسابات:
شهدت الأشهر الأخيرة إصدار أوامر قضائية أو إدارية بتعليق نشاط عدة جمعيات تونسية ناشطة لمدة 30 يوماً، مع تجميد أرصدتها البنكية. من أبرز هذه الجمعيات التي طالتها القرارات أو الملاحقات المالية:
- الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات ATFD وهي جمعية نسوية مستقلة تأسست منذ 36 عاماً وتُعدّ من أعرق المنظمات الحقوقية في البلاد. تلقت يوم 20 أكتوبر 2025 إشعاراً رسميّاً بتعليق نشاطها لشهر واحد بدعوى وجود مخالفات إدارية ومالية مزعومة طبقاً لمقتضيات مرسوم 88 لسنة 2011. وقد أكدت رئيسة الجمعية رجاء الدهماني أن الجمعية ملتزمة تماماً بالقانون وقدّمت كل الوثائق المطلوبة في آجالها، معتبرةً الإجراء تعسّفياً وغير مبرّر ويهدد استمرار الخدمات التي تقدمها الجمعية لما يزيد عن 800 امرأة ضحية للعنف سنوياً عبر مراكز الاستماع والإيواء التابعة لها.
- المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية FTDES وهو منظمة مجتمع مدني رائدة في الدفاع عن الحقوق الاجتماعية وحقوق المهاجرين. تلقى بدوره بتاريخ 20 أكتوبر 2025 قراراً مماثلاً بتعليق نشاطه لمدة شهر بنفس الصياغة الجاهزة التي وُجّهت لجمعيات أخرى. وجاء ذلك بعد سلسلة من التدقيقات المالية والجبائية المتواصلة التي استهدفت المنتدى منذ أفريل 2025 رغم التزامه المعتاد بجميع التراتيب القانونيةوالإدارية. وقد صرّح رمضان بن عمر، الناطق باسم المنتدى، أن القرار يهدف فعلياً إلى إسكات أي صوت مستقل داخل المجتمع المدني تحت غطاء الرقابة على التمويل. وأكد المنتدى أنه سيطعن قضائياً في قرار التعليق الذي يعتبره جائراً وغير قانوني.
- جمعية صحفيي موقع نواة للإعلام المستقل – وهي مجموعة صحفيين تدير موقع “نواة” المعروف بتوجهه الاستقصائي والنقدي. وقد أصدرت السلطات نهاية أكتوبر 2025 قراراً بتعليق نشاط جمعية صحفيي “نواة” لمدة شهر وندّدت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بهذا الاستهداف المباشر لحرية الصحافة، واعتبرته تصعيداً خطيراً يندرج ضمن سياسة تكميم الأفواه وضرب الإعلام المستقل عبر توظيف الإجراءات الإدارية والقضائية. ورأت النقابة أن تغليف القرارات السياسية بطابع إداري وقانوني هو سلوك سلطوي معتاد ثبت فشله تاريخياً في إسكات المجتمع.
- الجمعية التونسية للحياة البرية – وهي جمعية بيئية تُعنى بحماية التنوع الحيوي والحياة البرية في تونس. أكدت هذه الجمعية أيضاً تلقيها قراراً قضائياً بتعليق نشاطها لمدة شهر استناداً إلى إذن على عريضة من المحكمة الابتدائية بتونس، اعتباراً من تاريخ معين، رغم عدم علم الكثيرين بأي تجاوزات من جانبها. أثار إيقاف نشاط جمعية بيئية كهذه مخاوف من أن حملة الاستهداف تشمل حتى منظمات غير سياسية كالجمعيات البيئية، لمجرّد حصولها على دعم لوجستي أو تمويلات خارجية لمشاريعها.
- جمعية – مجموعة “البوبلي“ Boobli – هي جمعية شبابية متخصصة في الإعلام الرقمي والمحتوى على الإنترنت عرّفت صفحة “بوبلي” الرسمية نفسها بأنها جمعية مموّلة من جهات أجنبية وتعمل في مجال صناعة الإعلام الرقمي، وقد أكدت عبر فيسبوك صحّة الأنباء عن صدور قرار إداري بتجميد نشاطها وإغلاق مقرّها ضمن هذه الحملة. يُعتبر التضييق “البوبلي” مثالاً على استهداف مبادرات شبابية ناشئة فقط لأنها تحظى بدعم وتمويل دولي في مجال الابتكار الإعلامي.
ملاحظة: إلى جانب ما سبق، أشارت مصادر حقوقية وإعلامية إلى أن عشرات الجمعيات الأخرى واجهت تدقيقات مالية مشددة، وبعضها جُمّدت حساباتها المصرفية دون إعلان رسمي مسبق. وفي المجمل، ذكرت إحصاءات إلى قيام السلطات بحلّ 47 جمعية وتجميد أرصدة 36 جمعية أخرى منذ بداية حملة التدقيق، وذلك من أصل حوالي 25238 جمعية مسجّلة في تونس حتى سبتمبر 2025. هذا العدد الكبير يدل على اتساع نطاق الحملة لتشمل طيفاً هاما من منظمات المجتمع المدني الناشطة بعد الثورة.
المرسوم عدد 88 لسنة 2011: الإطار القانوني وشفافية التمويل الأجنبي
يستند عمل الجمعيات في تونس إلى المرسوم عدد 88 لسنة 2011 الصادر في 24 سبتمبر 2011، والذي يُعدّ من أبرز مكاسب الثورة في مجال الحريات. لقد كفل هذا المرسوم بشكل واضح حرية تأسيس الجمعيات والانضمام إليها والنشاط ضمنها دون قيود بيروقراطية، كما عزز استقلالية المجتمع المدني عن سيطرة الدولة.. واستعاض هذا المرسوم عن قانون الجمعيات القديم (لسنة 1959) الذي كان يفرض قيوداً مشددة، فأصبح التأسيس بالإخطار(الاعلام) عوضاً عن الترخيص المسبق، وسُمح للجمعيات بتلقي التمويلات والهبات، وطنية كانت أو أجنبية، بشرط الشفافية والتصريح.
ومن المهم التأكيد أن تلقي التمويلات من الخارج حقٌ مشروع بموجب مرسوم 88 وليس جريمة أو خيانة للوطن. فقد نصّ المرسوم على جملة من إجراءات الشفافية والرقابة الذاتية التي يجب على الجمعيات الالتزام بها في حال حصولها على دعم مالي أجنبي، أهمها:
- إشعار السلطات ونشر المعلومات للعموم: يوجب الفصل 41 من المرسوم على الجمعية التي تحصل على مساعدات أو تبرعات أجنبية أن تنشر مصدر تلك الأموال وقيمتها وموضوعها بإحدى وسائل الإعلام المكتوبة وعلى موقعها الإلكتروني إن وُجد. وهكذا تُعلَن كل تمويلات من الخارج بشكل علني للصحافة والرأي العام.
- إعلام السلطات الحكومية المعنية: تلتزم الجمعيات أيضاً بإخطار الكتابة العامة للحكومة رئاسة الحكومة بكل دعم أجنبي تتلقاه، ضمن آجال محددة. وقد أكد خبراء في الشأن القانوني أن الالتزام بإعلام رئاسة الحكومة ونشر البيانات في الصحف يجعل نشاط الجمعيات وتمويلها تحت الرقابة القانونية الكاملة. وبالفعل اعتادت الجمعيات التونسية بعد الثورة نشر إعلانات دورية بالصحف حول المبالغ التي تحصلت عليها من شركاء دوليين وأوجه صرفها إضافة للتقارير المالية.
- المرور عبر القنوات البنكية الرسمية: يشترط القانون التونسي أن تتم التحويلات الخارجية للجمعيات عبر المصارف المعتمدة بما فيها البنك المركزي.. وقد جاء في القانون عدد 26 لسنة 2015 (قانون مكافحة الإرهاب) إضافة مكملة تُلزم الجمعيات بإعلام البنك المركزي في نهاية كل سنة بمجمل التمويلات الأجنبية التي حصلت عليها خلال نفس السنة. هذا يعني أن جميع الأموال تمر عبر منظومة مالية مراقبة حكومياً، مما يدحض أي مزاعم حول تدفقات سرية أو غسيل أموال.
وبناء على ما سبق، ترتكز شرعية نشاط الجمعيات المموّلة دولياً على مبدأ الإفصاح والشفافية لا المنع وقد أوفت معظم الجمعيات المعنية تماماً بهذه الالتزامات القانونية؛ فعلى سبيل المثال أعلنت جمعية النساء الديمقراطيات عدم تلقيها أي تمويل من الدولة وحرصها على احترام مبادئ دولة القانون وحقوق الإنسان في كل معاملاتها. وكذلك شدّد المنتدى الاقتصادي والاجتماعي على أنه دائم الامتثال للترتيبات القانونية والإدارية وأن ما يتعرض له من تفتيش متكرر هو استهداف سياسي لا غير.
ومن اللافت أن القانون التونسي كان من الأكثر تحرراً في المنطقة العربية بخصوص تمويل الجمعيات، حتى اعتُبر نموذجاً دولياً يُحتذى به. فعديد الدول المجاورة تسمح بدورها بالتمويل الأجنبي للجمعيات ضمن ضوابط شفافية مشابهة: التشريع المغربي مثلاً لا يمنع تلقّي الجمعيات المصرّح بها قانوناً لمنح من منظمات أو مؤسسات دولية، كما أن لبنان والكويت وغيرهما لديهم منظمات مجتمع مدني تتعاون مع جهات مانحة أجنبية دون وصمها بالعمالة ما دامت تلتزم بالإجراءات القانونية. إذًا، التمويل الدولي للمجتمع المدني هو أمر مألوف ومشروع لتعزيز قدرات الجمعيات على تحقيق أهدافها التنموية والحقوقية، وليس مؤامرة لزعزعة السيادة كما تروّج بعض الخطابات الرسمية.
إجراءات التعليق: مخالفة للقانون والتزامات تونس الدولية
بالرغم من الذريعة الرسمية المعلنة لتعليق نشاط الجمعيات وهي “مخالفات في نظامها الأساسي أو في التصاريح المالية”، تشير المعطيات المتوفرة إلى عدم احترام السلطات للإجراءات القانونية الواجبة قبل اتخاذ قرارات التعليق. فبحسب مرسوم 88 لسنة 2011 نفسه (الفصل 45) لا يجوز تعليق نشاط جمعية إلا في حالة ارتكاب تجاوزات جسيمة وبعد توجيه تنبيه للجمعية المعنية وعدم قيامها بتصحيح المخالفة خلال المدة المحددة. كما ينبغي أن يتم التعليق بأمر من رئيس المحكمة الابتدائية بناء على طلب معلّل من الكاتب العام للحكومة، ولمدة لا تزيد عن 30 يوماً، وللجمعية حق الطعن الفوري وفق إجراءات القضاء الاستعجالي.
في الحالات الأخيرة أكدت الجمعيات مثل النساء الديمقراطيات والمنتدى الاقتصادي والاجتماعي أنها استجابت فعلاً لطلبات السلطات وقدّمت جميع التقارير والسجلات المطلوبة ضمن الآجال. ومع ذلك، فوجئت هذه الجمعيات بقرارات تعليق جاهزة الصياغة تُصدرها المحاكم دون أي جلسات استماع أو مكافحة. ولم تتضمن القرارات المكتوبة أسباباً تفصيلية أو مخالفات محددة مثبتة ضدها، بل جاءت عامة تستنسخ نفس العبارات في حق جمعيات مختلفة. ويشير ذلك إلى أن الإجراء افتقر للخطوات التمهيدية الواجبة التنبيه والإمهال للتصحيح)) وخالف مبدأ التناسب المنصوص عليه في القانون الوطني والمعايير الدولية.
جدير بالذكر أن الدستور التونسي لعام 2022 ذاته يضمن صراحةً حرية تكوين الجمعيات (الفصل 37) ويحظر تقييدها إلا في نطاق القانون وبما لا ينال من جوهرها. كما تكفل المعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس (مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، المادة 22) حرية تكوين الجمعيات وعدم فرض قيود عليها إلا للضرورة القصوى وبصورة متناسبة مع سبب مشروع. وعليه فإن التعليق التعسفي لأنشطة الجمعيات دون إبراز أدلة واضحة على ارتكابها انتهاكات جسيمة يمثّل انتهاكاً بيّناً للدستور ولالتزامات تونس الدولية في مجال حقوق الإنسان. هذا ما أكدت عليه عدة هيئات مستقلة، بينها جمعية القضاة التونسيين التي أصدرت بياناً يندّد بتعليق “إحدى أبرز المنظمات النسوية والحقوقية في البلاد” ورأت فيه استهدافاً لكافة الجمعيات والمنظمات المدافعة عن الحقوق والحريات وتراجعاً خطيراً عن مكتسبات الثورة.
بالنتيجة، يتضح أن قرار تعليق نشاط الجمعيات في تونس يفتقد للسند القانوني السليم ويشكل تجاوزاً للصلاحيات. وحتى لو كان الهدف المعلن هو مراجعة الحسابات والتثبت من التمويلات، فقد كان يمكن للسلطات اتباع آليات الرقابة العادية أو إحالة أي تجاوزات فعلية للقضاء دون اللجوء إلى إيقاف شامل لنشاط منظمات بأكملها وحرمان المستفيدين من خدماتها. وقد عبّرت رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية مثلاً عن رفضها لهذه المقاربة، داعيةً إلى “محاسبة الأشخاص المخطئين وترك المنظمات تواصل نشاطها” لأن وقف جمعية ذات نضال تاريخي كمثل النساء الديمقراطيات يعدّ خسارة لكل النساء المنتفعات من خدماتها.
تصاعد التضييقات على المجتمع المدني والأجسام الوسيطة منذ 2021
لا يمكن النظر إلى استهداف الجمعيات بمعزل عن السياق الأوسع لتدهور مناخ الحريات في تونس منذ إعلان الرئيس قيس سعيّد الإجراءات الاستثنائية في 25 جويلية 2021 فمنذ ذلك التاريخ، ومع تجميع السلطات بيد الرئيس وتعليق ثم حل البرلمان، شهدت تونس تراجعات متتالية عن مكتسبات دولة القانون شملت القضاء والإعلام والأحزاب، وامتدّت بطبيعة الحال إلى المنظمات المستقلة والهيئات الوسيطة التي طالما لعبت دوراً محورياً بين الدولة والمجتمع.
وقد أصبح خطاب رئيس الجمهورية يقوم بشكل متكرر على شيطنة منظمات المجتمع المدني واتهامها بالعمالة. في الأشهر الأخيرة خاصةً، هاجم سعيّد جمعيات ولمّح إلى تغيير مرتقب لمرسوم 88 ذاته، زاعماً أن “الجمعيات غزت تونس بعد 2011” وأن بعضها يعمل كواجهة لاستخبارات أجنبية لتغيير هوية البلاد.. وفي فيفري 2023 أدلى بتصريحات عنصرية ضد المهاجرين الأفارقة واتهم جهات داخلية بتسهيل موجات الهجرة في إطار “مؤامرة لتغيير التركيبة الديموغرافية” – وهي تلميحات طالت ضمناً الجمعيات المدافعة عن حقوق المهاجرين باعتبارها متواطئة. وتصاعد هذا الخطاب في ماي 2024 مع وصفه العلني لجمعيات تُعنى بالمهاجرين بأنها تقوم بـ”خيانة” وتتلقى “المليارات” ضمن مخطط خارجي. مثل هذه الادعاءات تزرع الشكوك وتحرّض الرأي العام ضد المجتمع المدني ككل، وقد مهّدت فعلاً لتكثيف التحقيقات الأمنية والقضائية مع نشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان.
بالتوازي مع الجمعيات، تعرّضت المنظمات الوطنية الكبرى والنقابات والأجسام الوسيطة الأخرى لضغوط غير مسبوقة، في محاولة من السلطة لتفكيك أي قوى معارضة منظمة خارج إطار الدولة. وأبرز مثال على ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT) أعرق نقابة عمالية في أفريقيا وصاحبة التاريخ النضالي في تونس. فبعد موقف متحفظ في البداية، دخل اتحاد الشغل في صدام مباشر مع توجهات الرئيس حين بدأ هذا الأخير يتجاهله ويتخذ قرارات تمس العمال دون تشاور. منذ أوائل 2023، اعتُقل قياديون نقابيون (مثل إيقاف أنيس الكعبي إثر إضراب عمال الطرقات السريعة في جانفي 2023) ،واعتُبرت تلك الحادثة بمثابة إعلان حرب من السلطة على الاتحاد وفق وصف صحيفة الشعب الناطقة باسم النقابة. تلا ذلك قيام السلطات بمنع قياديين نقابيين أوروبيين من دخول تونس للمشاركة في تجمع عمالي تضامني، حيث طُردت مسؤولة في اتحاد النقابات الأوروبي لدى وصولها للمطار وصرح الرئيس أنه “لا يقبل بأن يشارك أجانب في الاحتجاجات”.
ورداً على هذه التضييقات، حشد اتحاد الشغل الآلاف من أنصاره في مسيرات حاشدة بالعاصمة في فيفري ومارس 2023 رافعاً شعارات تندد بعودة الدولة البوليسية وتهديد الحريات النقابية. وقد هتف المتظاهرون آنذاك “لا لحكم الفرد الواحد” و”الاتحاد لا يخاف” في رسالة تحدّي واضحة. وأكد الأمين العام نور الدين الطبوبي في خطاب جماهيري أن العمال موحّدون على طريق النضال ولن يقبلوا بعودة القمع والاستبداد الذي ثاروا عليه في 2011. ووصف مراقبون تلك المواجهة بأنها أكبر حركة احتجاج ضد الرئيس منذ استحواذه على السلطة، مما يبرز مكانة الاتحاد كآخر حصون الدفاع عن الديمقراطية.
لم يتراجع الضغط الرسمي على اتحاد الشغل مع الوقت، بل شهد تصعيداً جديداً في 2025. حيث دفع الرئيسُ الحكومة لاتخاذ قرارات تُضعف الاتحاد مالياً وإدارياً – منها إلغاء نظام التفرغ النقابي ووقف الاقتطاع التلقائي لاشتراكات المنخرطين من رواتب الموظفين الحكوميين. وهذا القرار الأخير يهدف إلى ضرب الموارد المالية للاتحاد وتقليص قدرته على تمويل أنشطته. كما شجّعت السلطة أنصارها على تنظيم تجمعات مناوئة للاتحاد بلغت ذروتها في 8 أوت 2025 حين تجمهر مؤيدون للرئيس أمام مقر الاتحاد بالعاصمة مطالبين بحلّه وتجميد نشاطه بالكامل. ورغم نفي سعيّد لاحقاً أي نية لاقتحام المقر، فقد توعّد في خطاب علني بفتح ملفات الفساد ومحاسبة “أي كان” في إشارة ضمنية لقيادات الاتحاد. عندئذٍ اعتبر الأمين العام المساعد للاتحاد سامي الطاهري أن ما يحدث رسالة واضحة بمضيّ السلطة في التضييق على العمل النقابي وقمع الدور التاريخي للاتحاد.
إلى جانب اتحاد الشغل، طالت المضايقات هيئات مهنية وقانونية أخرى. فقد شُنت حملات ضد المحامين والقضاة والصحفيين المنتقدين للمسار الجديد. على سبيل المثال، تم إيقاف محامين اثنين وصحفيين اثنين في ماي 2024 ووجهت لبعضهم تهم بموجب المرسوم 54 السيء الصيت قانون (الجرائم الإلكترونية) فقط لأنهم عبّروا عن مواقف معارضة. كما يواجه عشرات الصحفيين والمدونين ملاحقات قضائية بموجب ذلك المرسوم منذ صدوره أواخر 2022. أما القضاء فتعرض لضربة موجعة حين أصدر الرئيس في صيف 2022 أمراً بحلّ المجلس الأعلى للقضاء وعزل عشرات القضاة دون إجراءات سليمة، ما اعتبرته منظمات دولية إنهاءً لاستقلال القضاء في البلاد. هذا المناخ العام من الترهيب والتضييق طال كل بُنى المجتمع المدنيحتى التقليدية منها مثلالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ونقابة الصحفيين.
باختصار، تتعرض مكونات المجتمع المدني التونسي منذ 2021 إلى عملية منهجية لشل فعاليتها وإقصائها من المجال العام. ويبدو أن السلطة القائمة تتبنّى رؤية شمولية ترفض أي وسطاء بين الحاكم والشعب – سواء كانوا أحزاباً أو نقابات أو جمعيات – مما يعيد للأذهان أساليب الحكم الفردي قبل الثورة.. وقد حذّر أحد النقابيين البارزين خلال احتجاج مارس 2023 بأن سعيّد “يهدد الجميع هنا: الأحزاب والمجتمع المدني والنقابات… التونسيون يقولون اليوم لن نقبل بالشعبوية ولا بالدكتاتورية الوليدة”. هذه الصورة تلخّص حقيقة ما يشهده البلد: انقلاب على الديمقراطية الناشئة لعام 2011 وإنهاء للحريات التي أتت بها الثورة.
ردود الفعل المحلية والدولية على استهداف الجمعيات:
أثار التضييق على الجمعيات والمنظمات المستقلة موجة واسعة من الإدانات محلياً ودولياً. فقد بادرت عدة جهات داخل تونس وخارجها إلى التعبير عن التضامن مع الجمعيات المستهدفة والتنديد بالإجراءات المتخذة بحقها، معتبرةً إياها خطوة خطيرة نحو ترسيخ الحكم الاستبدادي. وفيما يلي أبرز ردود الفعل:
- المنظمات الحقوقية المحلية: أصدرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ومعها منظمات أخرى بيانات تؤكد تضامنها الكامل مع الجمعيات المستقلة وتصف قرارات التعليق بأنها “إجراءات تعسفية تستهدف المجتمع المدني وتهدد حق التنظيم والعمل الحقوقي” كما عبّرت هذه الهيئات عن قلقها من أن تكون هذه مجرد مقدمة لحلّ تلك الجمعيات نهائياً مما يعيد تونس إلى ممارسات تسلطية عرفتها قبل 2011.
- جمعية القضاة التونسييناستنكرت بدورها تعليق نشاط جمعية النساء الديمقراطيات “دون أي مبرر” ورأت فيه استهدافاً واضحاً لكل المنظمات المدافعة عن العدالة الاجتماعية والحقوق والحريات وخاصة حقوق المرأة. حتى الاتحاد الوطني للمرأة التونسية – رغم قربه النسبي من الدولة – صرّح على لسان رئيسته راضية الجربي أن إيقاف جمعية النساء الديمقراطيات خسارة لكل النساء، ودعت السلطات إلى ترك المنظمات تنشط ومحاسبة المخطئين أفراداً إن وجدوا.
- أدانت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بشدّة قرار تجميد ” موقع نواة” واعتبرته استهدافاً مباشراً لحرية الصحافة وخطوة تصعيدية ضمن نهج تكميم الأفواه. وأكدت النقابة رفضها لأي توظيف للإجراءات الإدارية والأمنية لقمع الإعلام المستقل وإخضاع المجتمع المدني. كذلك أصدر مجلس عمادة المحامين بياناً عبّر فيه العميد بوبكر بالثابت عن رفضه لقرارات تجميد نشاط الجمعيات الحقوقية، مشدداً على أن القانون التونسي يبيح للجمعيات تلقي التمويل الأجنبي وأن أي تعديل في هذا الشأن يجب أن يتم عبر نقاش تشريعي مع احترام عمل الجمعيات واستقلالية المجتمع المدني. هذا الموقف من عميد المحامين يُبرز أن رجال القانون في تونس يرون في الحملة على الجمعيات تهديداً لدولة القانون نفسها.
- أصوات من داخل السلطة أو الموالين لها: تجدر الإشارة إلى أن بعض الشخصيات المقربة من الرئيس اعتبرت رسمياً أن إجراءات التعليق هي مجرد تطبيق للقانون وليست استهدافاً سياسياً. فمثلاً رأى حسان بن أحمد، رئيس المكتب السياسي لحراك 25 جويلية الموالي لسعيّد، أن التحري في تمويل الجمعيات حق مشروع للدولة وأن الجمعيات التي تعمل بشفافية لن يطولها الإيقاف. كما صرّح محسن النابتي القيادي في حزب التيار الشعبي (حليف للرئيس) بأن تعليق عمل الجمعيات إجراء إداري عادي لمن لم تقدم تصاريحها المالية، لكنه استدرك داعياً إلى إيجاد وسائل تحقيق أخرى في حالة جمعية النساء الديمقراطيات نظراً لرصيدها النضالي. هذه التصريحات تعكس محاولة من السلطة لتبرير الخطوات المتخذة كإجراءات قانونية روتينية، إلا أنها في الوقت ذاته اعتراف ضمني بعدم ملاءمة تعميم العقاب على جميع المنظمات.
- منظمات دولية وإقليمية: لقيت تطورات تونس انتباهاً بالغاً من المنظمات الحقوقية الدولية. فقد أصدرت الشبكة الأورومتوسطية للحقوق بياناً حذّرت فيه من خطورة ما يحدث ودعت السلطات التونسية إلى التراجع عن القرارات التعسفية ضد الجمعيات واحترام التزاماتها الدولية. كما أعربت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان عن صدمتها من تعليق أبرز منظمتين في تونس واعتبرته اعتداءً مباشراً على حرية تكوين الجمعيات المكفولة عالمياً. إلى جانب ذلك، أصدرت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية بيانات مشتركة تدعو إلى إنهاء حملة القمع ضد المجتمع المدني. ففي بيان مشترك بتاريخ 18 جوان 2024 ،دعت 20 منظمة حقوقية دولية الحكومةَ التونسية إلى الإفراج الفوري عن كل من سُجن ظلماً من مدافعي حقوق الإنسان منذ جويلية 2021 ووقف الملاحقات ضد الصحفيين والمحامين والجمعيات المستقلة. كما حذّر البيان من مغبة تعديل المرسوم 88 لضرب حق تكوين الجمعيات، وذكّر بأن هذا المرسوم نال إشادة دولية عند صدوره كضامن للحريات.
- المؤسسات الرسمية الدولية: عبّر مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك عن قلقه البالغ إزاء تدهور أوضاع الحقوق في تونس، مشيراً في بيان له في 2024 إلى تصاعد استهداف المعارضين ونشطاء المجتمع المدني وداعياً السلطات التونسية إلى تغيير نهجها واحترام الحق في حرية التعبير والتنظيم. كذلك تناول البرلمان الأوروبي الوضع في تونس بعدة مناسبات، حيث صدر في 16 مارس 2023 قرار عن البرلمان الأوروبي يندد بـ”الهجمات الأخيرة على حرية التعبير وتكوين الجمعيات في تونس” ويدعو السلطات للكف عن ملاحقة الصحفيين والنقابيين والمعارضين. وأبدى القرار أسفه لتراجع تونس عن الإنجازات الديمقراطية، ملمّحاً إلى إمكانية مراجعة علاقات الشراكة الأوروبية مع تونس إذا استمرت هذه الانتهاكات. ورغم ذلك، يُلاحظ أن رد فعل بعض الحكومات الغربية جاء خجولاً بسبب انشغالها بتفاهمات ثنائية مع السلطات التونسية والرئيس سعيد حول ملف الهجرة وغيره. وقد انتقد نشطاء هذا الصمت النسبي واعتبروه تواطؤاً ضمنياً، مطالبين الشركاء الدوليين بالانتصار لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يرفعونها وعدم تقديم مصالحهم التكتيكية على تلك المبادئ.
اجمالاً، كشفت ردود الفعل عن إجماع لدى المجتمع الحقوقي داخل وخارج تونس على رفض المساس بحرية عمل الجمعيات. وتم تسليط الضوء على الدور الحيوي الذي لعبته هذه المنظمات في تحسين الأوضاع الاجتماعية والدفاع عن ضحايا الانتهاكات خلال العقد الماضي، وبالتالي فإن إخماد صوتها يمثل خسارة فادحة للمجتمع ككل. ودعت بيانات كثيرة السلطة القضائية التونسية إلى التصدي لهذه القرارات الجائرة، إذ لا يجوز قانوناً تعليق حرية جمعية بمرسوم رئاسي أو قرار إداري، بل يجب ضمان استقلالية القضاء في البت بأي تجاوزات فعلية ضمن محاكمات عادلة.. كذلك طُلب من الحكومة التونسية احترام تعهداتها بموجب اتفاقيات الشراكة الدولية التي تشترط احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، مثل اتفاقياتها مع الاتحاد الأوروبي. ويُنظر اليوم إلى الصمت إزاء هذه الانتهاكات على أنه تأييد لغلق الفضاء المدني، وهو ما لن يؤدي إلا إلى مزيد من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
المجتمع المدني في دول عربية أخرى:
في الوقت الذي تمر فيه تونس بهذا المنعطف الخطير، تبرز تجارب بعض الدول العربية كنماذج بديلة نسبيًا في كيفية التعامل مع المجتمع المدني واحترام حريته في إطار القانون. صحيح أن مناخ عمل الجمعيات ليس مثالياً تماماً في المنطقة، إلا أن ثمة دول حافظت على قدر من الانفتاح والشفافية مكّن منظماتها الأهلية من العمل وتحقيق أهداف تنموية وإنسانية مهمة دون مواجهات مع السلطة.
- المغرب: شهد المغرب بدوره إصلاحات قانونية في أعقاب حراك 20 فيفري 2011 وتم تعديل قانون الجمعيات الظهير الشريف لعام 1958 (لمنح مساحة أوسع لنشاط المنظمات غير الحكومية) فاليوم يوجد في المغرب عشرات الآلاف من الجمعيات النشيطة في مجالات حقوق الإنسان والتنمية الاجتماعية والبيئة وغيرها، تتلقى العديد منها دعمًا وتمويلاً دولياً بشكل معلن ولا يفرض التشريع المغربي حظراً على التمويل الأجنبي: فالجمعيات المصرّح بها قانوناً يُسمح لها بتلقي منح من منظمات أجنبية أو هيئات دولية طالما أخطرت السلطات المختصة بذلك. هناك إجراءات إدارية مثل إيداع ملفات لدى الأمانة العامة للحكومة) لضمان الشفافية، لكن لم نشهد حملة شاملة في المغرب لتجميد أو حلّ الجمعيات بسبب مصادر تمويلها. على العكس، كثير من المشاريع المجتمعية في القرى والمدن المغربية تنفّذ بشراكة بين جمعيات محلية ومنظمات مانحة كالاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وتتباهى الحكومة بنجاح هذه الشراكات ضمن خطط التنمية. وبالرغم من بعض التضييقات التي تعاني منها منظمات حقوقية نقدية في المغرب مثل منع نشاط فروع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أحياناً، إلا أن القاعدة العامة هي استمرار وجود مجتمع مدني حيوي يشارك في النقاش العمومي ويمارس دوره كقوة اقتراح ومساءلة. وهذا يؤكد أن التعايش ممكن بين الدولة والجمعيات حتى مع تلقيها دعماً خارجياً، دون أن يُعتبر ذلك مسًّا بالسيادة الوطنية.
- الكويت: تُعد الكويت من الدول الخليجية القليلة التي تتمتع بهامش نشاط مدني وسياسي أوسع نسبياً، بفضل وجود برلمان منتخب وثقافة مجتمعية منفتحة. توجد في الكويت عشرات الجمعيات الأهلية المرخصة الناشطة في مجالات حقوق الإنسان والشفافية والخدمات الاجتماعية (مثل جمعية الشفافية الكويتية، الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان، جمعيات النفع العام النسائية والثقافية، وغيرها) وتحصل بعض هذه المنظمات على تمويلات أو دعم فني من منظمات دولية وإقليمية في إطار برامج مشتركة، دون أن تواجه اتهامات بالولاء للخارج. فعلى سبيل المثال، تعاونت مؤسسات كويتية غير حكومية مع هيئات أممية في حملات للتوعية الصحية والاجتماعية، وساهمت الكويت رسمياً في تمويل مشاريع لمنظمات مجتمع مدني محلية وإقليمية كجزء من جهود الدبلوماسية الشعبية. وتمتاز بيئة العمل الأهلي في الكويت بدرجة من الشفافية والرقابة الذاتية؛ إذ تفرض وزارة الشؤون الاجتماعية تدقيق حسابات الجمعيات سنوياً، لكن نادرًا ما تُغلَق جمعية أو تُجمّد حساباتها إلا في حالات فساد مثبتة أو نشاط مخالف تماماً للقانون.. كما أن الخطاب الرسمي في الكويت لا شيطنة فيه للمنظمات الأهلية، بل كثيراً ما تشيد الدولة بدور المجتمع المدني في تحقيق التنمية، ضمن رؤية الكويت الجديدة. هذه الأجواء تجعل العلاقة تكاملية أكثر منها تصادمية، وتنعكس إيجاباً على سمعة الكويت كمجتمع منفتح ضمن محيطها.
- لبنان وتونس (سابقاً): يجدر الذكر أن لبنان تاريخياً أحد أكثر البلدان العربية انفتاحاً في مجال العمل الأهلي، حيث يعود قانون الجمعيات فيه إلى العهد العثماني ويكفل تأسيس الجمعيات بالإخطار (مجرد بيان علم وخبر) دون حاجة للترخيص. وقد ازدهرت في لبنان آلاف المنظمات غير الحكومية التي اعتمدت كثيراً على المنح الخارجية، وساهمت في إعمار المجتمع وتعويض تقصير الدولة في الخدمات، دون قيود حكومية تذكر على تدفق التمويل الأجنبي. ورغم الأزمات السياسية، لا تزال منظمات المجتمع المدني في لبنان لاعباً محورياً في مجالات الإغاثة وحقوق الإنسان، ويُعزى ذلك إلى ثقافة مجتمعية تحترم استقلالية الجمعيات وعدم ارتهانها للحكومة.. أما تونس ما بعد 2011، فقد كانت في حد ذاتها نموذجاً يُحتفى به عربياً؛ إذ بلغ عدد الجمعيات المسجلة عشرات الآلاف، وانخرطت في كل مناحي الحياة، من مراقبة الانتخابات إلى مراقبة الأداء البلدي، ومن مناصرة قضايا النساء إلى الدفاع عن ضحايا التعذيب. وقد أشادت تقارير دولية مراراً بازدهار المجتمع المدني التونسي وحيويته في بناء الديمقراطية الناشئة. لذا فإن التدهور الحالي يُنذر بانقلاب على ذلك النموذج الملهم، ويثير قلق المنظمات الشبيهة في الدول العربية التي كانت تنظر لتونس كمنارة أمل.
خلاصة القول، تثبت التجارب المقارنة أن وجود مجتمع مدني قوي وممول جزئياً من الخارج لا يتعارض مع سيادة الدولة أو استقرارها إذا توفرت الإرادة السياسية لفهم دوره كشريك لا كخصم. فالدول الواثقة من نفسها ترحّب بمساهمة الجمعيات في تنمية المجتمع ورعاية الفئات الهشة ومراقبة الشأن العام، وتدرك أن الدعم الدولي لهذه المنظمات يمكن أن يكون سنداً لتنفيذ التزامات الدولة نفسها (مثلاً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة أو تحسين حقوق الإنسان) وعلى النقيض، فإن النظم التي تعاني أزمة شرعية هي التي تميل لإخماد أي صوت مستقل وتجريم أي عون خارجي له، ظناً أن ذلك يحميها، لكنه في الواقع يزيدها عزلة ويُفقدها ثقة مواطنيها والعالم.
خاتمة وتوصيات:
إن مرصد الحرية لتونس إذ يختتم هذا التقرير، يعبّر عن بالغ القلق من استمرار حملة التضييق على الجمعيات والمنظمات المستقلة في البلاد، لما تمثّله من نكسة خطيرة لمكتسبات ثورة 2011 في مجال الحريات المدنية. وتشير كل المعطيات إلى أن هذه الإجراءات التعسفية تفتقر إلى أي أساس قانوني صلب، بل تتعارض صراحةً مع الدستور والقوانين الداخلية والمواثيق الدولية المصادق عليها من قبل الدولة التونسية. وعليه، يدعو المرصد إلى ما يلي:
- الإلغاء الفوري لقرارات التعليق وتجميد الحسابات: الصادرة بحق الجمعيات المستهدفة، وفي مقدمتها جمعية النساء الديمقراطيات والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وجمعية نواة وغيرها. كما يطالب بوقف حملات التشويه ضد هذه المنظمات واتهامها بالعمالة دون أدلة. فالجمعيات المعنية أثبتت التزامها بالشفافية والقانون، وأي تجاوزات إجرائية كان يمكن تداركها دون اللجوء لعقوبة جماعية توقف خدماتها الحيوية.
- احترام مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء: في التعاطي مع ملف الجمعيات. يجب على المحكمة الإدارية والمحاكم المختصة البت العاجل في الطعون المقدمة ضد قرارات التعليق، والتأكيد أن حرية تأسيس الجمعيات والنشاط المدني لا يمكن أن تُعلّق بقرار تنفيذي جائر ويهيب المرصد بالقضاة التونسيين أن يكونوا حُماة للحقوق والحرّيات كما نصّ عليه الدستور، والتصدي لأي ضغوط سياسية في هذا السياق.
- الكف عن التهديد بتعديل مرسوم 88 أو استبداله بنصوص تقليدية: إن المرسوم 88 لسنة 2011 يمثل مكسباً تاريخياً لحرية التنظيم في تونس، وأي مسعى لإلغائه أو تشويه جوهره سيعدّ تراجعاً عن التعهدات الإصلاحية التي قطعتها الدولة بعد الثورة. وبدلاً من ذلك، يمكن للسلطات الحوار مع منظمات المجتمع المدني حول أي مقترحات تطوير أو تحسين شفافية التمويل، ضمن إطار يضمن استقلالية الفضاء المدني وعدم إخضاعه لوصاية السلطة التنفيذية.
- وقف جميع أشكال التضييق على المنظمات الوسيطة والنقابات المهنية.: يدعو المرصد رئاسة الجمهورية والحكومة إلى إنهاء المواجهة المفتوحة مع اتحاد الشغل والمنظمات الوطنية النظيرة، وإعادة بناء جسور الثقة والتعاون معها باعتبارها شريكاً في معالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية. إن تجريم العمل النقابي والإعلامي الحرّ والضغط على المحامين والقضاة والنشطاء لن يولّد إلا مزيداً من الاحتقان الداخلي وصورة سلبية عن تونس في الخارج. وعليه، من الضروري احترام حرية العمل النقابي والصحفي والكف عن الملاحقات التعسفية بحقهما، امتثالاً للفصول الدستورية والمواثيق الدولية ذات الصلة.
- تعزيز نهج الشفافية والشراكة بدل المقاربة الأمنية في التعامل مع المجتمع المدني. يوصي المرصد بأن تنشئ الحكومة آلية تنسيق دائمة مع الجمعيات لتبادل المعلومات حول مصادر التمويل وبرامج العمل، بما يبدد هواجس الدولة الأمنية دون التضحية باستقلالية المجتمع المدني. ويمكن الاستعانة بخبرات دول عربية نجحت في إرساء بيئة تشاركية (مثل المغرب والأردن والكويت) لصوغ نموذج تونسي يكفل خضوع الجميع للمساءلة أمام القانون من جهة، وحماية الفضاء المدني الحر من جهة ثانية.
في الختام، يؤكد مرصد الحرية لتونس أن المجتمع المدني النابض هو ركيزة أساسية لأي ديمقراطية. لقد كانت الجمعيات التونسية خلال العقد الماضي رئة تتنفس بها الحرية والأمل في البلاد، وإسكاتها اليوم هو خنقٌ لما تبقى من أصوات حرة. إن الدفاع عن حق التنظيم المستقل والتعبير الحر ليس ترفاً أو شأناً نخبوياً، بل هو ضمانة لكرامة كل التونسيين والتونسيات وحماية لمصالحهم في وجه أي تعسف. وسيستمر المرصد ومعه كل المدافعين الصادقين عن الحرية في قرع جرس الإنذار إزاء هذه الانحرافات، مطالبين بالعودة إلى مسار ديمقراطي تُحترم فيه القوانين والمؤسسات، وتُصان فيه كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية دون خوف أو ترهيب. لا يمكن لتونس أن تستعيد عافيتها الاقتصادية والاجتماعية إلا في مناخ سياسي حرّ ومفتوح، يكون فيه المجتمع المدني شريك بناء لا خصما مستهدفا.
المصادر:
- بيان النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين حول تجميد جمعية “نواة”[75].
- تغطية يورونيوز العربية لتعليق أنشطة الجمعيات والقلق في أوساط المجتمع المدني[11][76].
- بيان المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إثر قرار التعليق[12][13].
- تصريح رئيسة جمعية النساء الديمقراطيات بشأن قرار تعليق نشاط الجمعية وتسليم الوثائق المطلوبة[8][9].
- نص مرسوم عدد 88 لسنة 2011 (الفصل 41 حول نشر التمويلات الأجنبية)[27].
- تصريح الخبير القانوني أمين غالي حول قانونية التمويل الأجنبي وإجراءات الشفافية (النشر بالصحف وإعلام رئاسة الحكومة والبنك المركزي)[28].
- بيان جمعية القضاة التونسيين المندّد بتعليق نشاط الجمعيات الحقوقية واستهدافها[62][40].
- تقرير وكالة رويترز حول تعليق أنشطة الجمعيات وتجميد الحسابات ضمن حملة استهداف المجتمع المدني[77][5].
- تغطية أسوشييتد برس لتصاعد إجراءات قيس سعيّد ضد المنظمات واستغلال ورقة “التمويل الأجنبي” لقمعها[78][4].
- بيان الشبكة الأورومتوسطية للحقوق والرابطة التونسية لحقوق الإنسان للتضامن مع الجمعيات المستهدفة[61].
- تصريح عميد المحامين في رفض تجميد الجمعيات والتشديد على قانونية التمويل الأجنبي ضمن مرسوم 88[6].
- تقرير الجزيرة نت حول صراع قيس سعيّد مع اتحاد الشغل وإجراءات إضعافه مالياً وإدارياً[54][79][80].
- تغطية الجزيرة الإنجليزية لمظاهرات الاتحاد ضد قمع الحريات (مارس 2023)[51][52][81].
- … وغيرها من المصادر المشار إليها في متن التقرير أعلاه، وجميعها تؤكد خطورة الوضع الراهن وانتهاكه للمعايير القانونية والحقوقية.
[1] [4] [14] [78] Tunisia suspends prominent human rights groups as crackdown progresses | AP News
https://apnews.com/article/tunisia-rights-groups-suspended-saied-14aa0487e7c0b7d08873cde90266a8be
[2] [6] [11] [17] [18] [22] [29] [61] [64] [75] [76] بعد تجميد نشاط جمعيات حقوقية في تونس.. هل يشهد المجتمع المدني موجة قيود جديدة؟ | يورونيوز
[3] [5] [16] [77] Tunisia imposes one-month suspension on migrant-rights group | Reuters
[7] [15] [26] [34] [36] [37] [38] [39] [70] [71] [72] [74] After ATFD, FTDES is suspended – and the list goes on: the machine for destroying associations crushes Tunisia alive – CRLDHT
[8] [9] [10] [12] [13] [32] [33] [40] [41] [42] [43] [62] [63] تعليق نشاط جمعية نسوية تونسية: إجراء إداري أم تصفية حسابات؟ | اندبندنت عربية
[19] #بيان تؤكد الجمعية التونسية للحياة البرية إيقاف نشاطها مدة شهر تحت …
https://www.instagram.com/p/DQm58OoCmmH/
[20] تونس: قرار إداري بـ “تجميد وغلق” أنشطة مجموعة “البوبلي” الممولة أجنبياً …
[21] تم تجميد نشاط عدد من الجمعيات والمنظمات التونسية لمدة شهر بقرار رسمي …
[23] [24] [25] [27] مرسوم عدد 88 لسنة 2011 مؤرخ في 24 سبتمبر 2011 يتعلق بتنظيم الجمعيات – Tunisie – Legal Databases
[28] [35] أمين غالي: “تلقي الجمعيات لأموال من الخارج أمر قانوني ..” | Radio Express FM
[30] [44] [45] [46] [47] [48] [58] [59] [66] Tunisia: Joint Statement Calling for End to Crackdown | Human Rights Watch
https://www.hrw.org/news/2024/06/18/tunisia-joint-statement-calling-end-crackdown
[31] [PDF] Freedom-of-Association-EN.pdf – ohchr
https://romena.ohchr.org/sites/default/files/2022-04/Freedom-of-Association-EN.pdf
[49] [50] [51] [52] [53] [60] [81] Trade union protests against Tunisia president after crackdown | News | Al Jazeera
[54] [55] [56] [57] [79] [80] قراءة في قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد ضد اتحاد الشغل | سياسة | الجزيرة نت
[65] Tunisia: Arbitrary suspension of ATFD and FTDES
[67] Arrest of perceived political opponents and civil society in Tunisia
[68] [73] Texts adopted – Tunisia: Recent attacks against freedom of …
https://www.europarl.europa.eu/doceo/document/TA-9-2023-0084_EN.html
[69] EU’s Dodgy Deal with Tunisia Sparks Outcry Amid Continued Crack …




