Skip links

“التآمر على أمن الدولة 2” : شاهد وحيد مجهول وأقواله متضاربة يقود العشرات إلى السجن في تونس

أواخر الحكم أخذ تم. بفرض جورج التقليدي و فصل. ومن أوسع أراضي ثم, أملاً مليارات انه ٣٠, الدول والفلبين وبريطانيا جُل أم. حتى تجهيز احداث الشمل قد, حين يعادل الضروري الأولية بـ.مع أضف حصدت غينيا وقامت. ما شمال فرنسية أسابيع أما, حتى وبحلول تكتيكاً اليابانية هو. قبل سقوط الضروري الدولارات بـ. بين ما ساعة بالفشل, نفس بأيدي اقتصادية ان, وحتّى العالمي يتم و. التّحول الأوربيين به، عل, المارق الشتاء بـ الى.

الأحكام وسياقها

09 جويلية (يوليو) 2025 – أصدرت الدائرة الجنائية الخامسة المختصة في قضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية في تونس، مساء 8 جويلية 2025، أحكامًا ابتدائية بالسجن في القضية المعروفة إعلاميًا بـ”التآمر على أمن الدولة 2″. شملت الأحكام 21 متهمًا – من بينهم رئيس البرلمان السابق وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس الوزراء الأسبق يوسف الشاهد – وتراوحت بين 12 و35 سنة. فقد حُكم على الغنوشي بالسجن 14 عامًا، وعلى عدة متهمين موقوفين آخرين بالسجن 12 عامًا لكل منهم (من بينهم المسؤول الأمني السابق محرز الزواري وضابط أمن الطائرات السابق عبد الكريم العبيدي والقيادي بحركة النهضة الحبيب اللوز ورئيس بلدية الزهراء محمد ريان الحمزاوي). أما بقية المتهمين المُحاكمين غيابيًا وهم بحالة فرار أو خارج البلاد، فقضت المحكمة بسجنهم 35 عامًا مع النفاذ العاجل (ومن بينهم مديرة الديوان الرئاسي السابقة نادية عكاشة، ومعاذ الغنوشي، والقياديان في النهضة عادل الدعداع ورفيق عبد السلام). بالإضافة إلى ذلك، فرضت المحكمة خضوع جميع المحكوم عليهم للمراقبة الإدارية لمدة خمس سنوات بعد انقضاء عقوبتهم. وصدر الحكم بعد جلسات مطولة، فيما أسقطت المحكمة التهمة عن أحد المتهمين لعدم كفاية الأدلة (عدم سماع الدعوى).

جاء النطق بالحكم بعد محاكمة استمرت عدة أشهر وتأجيلات متعددة. وكانت القضية قد أُحيلت إلى المحكمة في 15 ماي 2024، وانطلقت أولى الجلسات في 2 ماي 2025، ثم تأجلت عدة مرات وصولًا إلى جلسة يوم 1 جويلية 2025 قبل تحديد تاريخ 8 يوليو للنطق بالحكم. وشهدت المحاكمة اعتراضات شديدة من هيئة الدفاع التي اعتبرتها محاكمة جائرة مفتقرة لأدنى شروط المحاكمة العادلة. وقد رفض راشد الغنوشي وعدد من المتهمين المثول أمام المحكمة حضورًا أو عبر شاشة تلفزيونية، احتجاجًا على إجراء المحاكمة عن بُعد وحرمانهم من حقهم في الحضور العلني. وأكد فريق الدفاع أن إصدار الأحكام تم عن “عن بُعد” وغاب المتهمون تمامًا، ما حرمهم من فرصة الدفاع المباشر عن أنفسهم. وقد انتقد المحامون صدور الحكم دون تمكينهم من المرافعة الشفوية الختامية أمام المحكمة.

الخلفية السياسية للقضية

تندرج هذه القضية ضمن سياق التحول السلطوي الذي تشهده تونس منذ إعلان الرئيس قيس سعيّد التدابير الاستثنائية في 25 جويلية 2021 وتعطيله البرلمان المنتخب. أعقب تلك التدابير موجة من الاعتقالات والمحاكمات السياسية التي طالت معارضين ونشطاء وصحفيين، في ظل استغلال مفرط لقوانين مكافحة الإرهاب. وعلى مدى عامي 2022 و2023، تراجعت استقلالية القضاء بشكل حاد، حيث حلّ الرئيس المجلس الأعلى للقضاء وعزل عشرات القضاة بمرسوم رئاسي، مما هيّأ الأرضية لتوظيف المحاكمات ضد الخصوم السياسيين.

القضية الحالية ليست الأولى من نوعها – فقد سبقتها قضية مماثلة عُرفت إعلاميًا باسم “قضية التآمر على أمن الدولة (1)”، حوكم فيها مطلع 2025 نحو 40 شخصية من رموز المعارضة والمجتمع المدني. وفي 19 افريل 2025، حكمت محكمة تونس الابتدائية على عشرات المتهمين في تلك القضية بالسجن لمدد تتراوح بين 13 و66 عامًا في محاكمة جماعية اعتبرتها منظمات حقوقية “صورية” وذات طابع سياسي. وأدانت منظمة العفو الدولية تلك الأحكام الجماعية بشدة، مؤكدة أنها تمثل “صورة زائفة للعدالة” وتظهر تجاهل السلطات التام لالتزامات تونس الدولية في مجال حقوق الإنسان وسيادة القانون. وأشارت المنظمة إلى أن المتهمين أدينوا “لمجرد ممارستهم السلمية لحقوقهم الإنسانية”، وطالبت بالإفراج الفوري عن جميع المعتقلين بسبب نشاطهم السلمي وإسقاط الأحكام الجائرة بحقهم. هذا النمط المتكرر من المحاكمات الجماعية والتهم المتعلقة بـ”التآمر” يدل على استخدام منهجي للقضاء كأداة لقمع المعارضة السياسية في تونس.

تعريف بقضية "التآمر على أمن الدولة 2"

بدأت التحقيقات فيما أصبح يُعرف بقضية “التآمر 2” أواخر سنة 2022 واستمرت خلال 2023، مستهدفة مجموعة متنوعة من الشخصيات المعارضة. يُتهم في هذه القضية 24 شخصًا من اتجاهات السياسية والفكرية المختلفة، مما يثير الشكوك حول وجود أي “تنظيم موحد” فعلي بينهم. تشمل قائمة المتهمين قيادات سياسية بارزة ومعارضين من الصف الأول، إلى جانب مسؤولين أمنيين سابقين وشخصيات أخرى. ومن أبرز المتهمين:

  • في الإيقاف (رهن الإيقاف التحفظي): راشد الغنوشي (رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان السابق)، علي العريّض (رئيس الوزراء الأسبق)، الحبيب اللوز (قيادي بحركة النهضة)، كمال البدوي (إطار أمني سابق يُزعم أنه حلقة وصل بين النهضة وأمنيين)، ريان الحمزاوي (رئيس بلدية الزهراء سابقًا)، عبد الكريم العبيدي (رئيس وحدة أمن الطائرات السابق)، محرز الزواري (المدير العام السابق للمخابرات)، سمير الحناشي (ناشط سياسي)، فتحي البلدي (مسؤول أمني سابق).
  • في حالة سراح (مُتابَعون دون إيقاف): رضا العيّاري، نبيل البوليفي، الصادق شورو – وهؤلاء حوكموا وهم طلقاء على ذمة القضية.
  • في حالة فرار أو خارج البلاد: يوسف الشاهد (رئيس الحكومة الأسبق)، نادية عكاشة (مديرة الديوان الرئاسي السابقة)، رفيق عبد السلام (وزير الخارجية الأسبق وصهر الغنوشي)، لطفي زيتون (وزير سابق)، معاذ الغنوشي، رفيق يحيى، شهرزاد عكاشة، عبد القادر فرحات، كمال القيزاني، ماهر زيد، مصطفى خذر وعادل الدعداع. وقد صدرت في سبتمبر 2023 بطاقات جلب دولية بحق 12 من هؤلاء الفارّين، بينهم الشاهد ونادية عكاشة ومعاذ الغنوشي ولطفي زيتون وآخرون ولم يقم الانتربول بتنفيذها وهذا مؤشر إضافي على “تسيس القضية”. تجدر الإشارة إلى أن يوسف الشاهد طعن لدى محكمة التعقيب في قرار إحالته على المحاكمة، لذا لم يشمله الحكم الصادر بانتظار نتيجة طعنه.

التهم الموجّهة إلى جميع المتهمين في هذه القضية بالغة الخطورة ومتشعبة، إذ تجمع بين جرائم إرهابية وأمن دولة. وبحسب قرار ختم البحث الصادر عن قاضي التحقيق، تشمل لائحة التهم ما يلي:

  • تكوين وفاق (تنظيم) إرهابي بقصد ارتكاب جرائم إرهابية.
  • التآمر على أمن الدولة الداخلي وتدبير محاولة لقلب نظام الحكم بالقوة.
  • الانضمام عمدًا إلى تنظيم إرهابي داخل تراب الجمهورية والمشاركة في أنشطته.
  • استعمال تراب الجمهورية لارتكاب جرائم إرهابية أو لتحضيرها، بما في ذلك انتداب وتدريب أشخاص بقصد ارتكاب أعمال إرهابية.
  • إفشاء وتوفير ونشر معلومات لفائدة تنظيم إرهابي أو فيما يتعلق بجرائم إرهابية.
  • تمويل الإرهاب وغسل الأموال المرتبطة بذلك.
  • حيازة أسلحة ومتفجرات دون ترخيص والتآمر بقصد الاعتداء على أمن الدولة الداخلي (طبقًا للفصل 72 من المجلة الجزائية).
  • التجسس لفائدة أطراف أجنبية والتخابر معها بقصد الإضرار بالأمن الوطني.
  • استغلال وسائل التواصل الاجتماعي للتحريض على العنف وزعزعة الاستقرار.

هذه التهم مترابطة مع قانون مكافحة الإرهاب التونسي لسنة 2015 ومجلة الإجراءات الجزائية، وبعضها يُعاقب عليه بالسجن المؤبّد أو حتى الإعدام (مثلاً التآمر لتغيير هيئة الدولة بالقوة) إن ثبتت أركانها. غير أن واقع الحال يبيّن غياب الأفعال المادية الخطيرة المفترضة في هذه القضية، ما يجعل توصيفها كقضية إرهابية محل تشكيك كبير.

أدلة ضعيفة وخلل في إجراءات المحاكمة

تستند القضية بشكل شبه كامل إلى شهادة واحدة مجهولة الهوية (الشاهد “X”) زعم فيها وجود “مؤامرة” أمنية على أعلى مستوى دون توفر أدلة مادية مباشرة تدعم مزاعم الشاهد، فلا أسلحة أو متفجرات مُصادَرة، ولا وثائق أو تسجيلات تثبت التخطيط لعمليات عنف. اعتمدت التحقيقات بدلًا من ذلك على تسجيلات مكالمات هاتفية وتحليل اتصالات بين بعض المتهمين، إلا أن مضمون تلك الاتصالات لم يثبت احتواءها على ما يشير إلى أعمال عنف أو إرهاب. ووفق هيئة الدفاع، ملف القضية “فارغ” من أي قرائن مادية ملموسة تؤيد فرضية التنظيم الإرهابي. وحتى المزاعم حول وجود علاقة تنظيمية أو لوجستية بين الأطراف المذكورة غير متوفرة نظرا لغياب هيكل موحّد يربط جميع المتهمين.

وقد برزت شهادة الشاهد السري كعمود فقري لقرار الاتهام؛ إذ ادعى هذا الشخص – الذي أخفيت هويته عن الدفاع – سلسلة اتهامات خطيرة بحق المتهمين. غير أن هذه الشهادة شابتها تناقضات عديدة: فقد تضمنت معطيات ثبت أنها غير صحيحة أو من نسج الخيال، وتم دحضها من قبل شهود آخرين وحتى من قبل بعض المسؤولين الحاليين في الدولة. على سبيل المثال، زعم الشاهد أن كمال البدوي (أحد المتهمين) كان المسؤول الأمني الخاص براشد الغنوشي، بينما لم يثبت أي دليل على وجود علاقة رسمية كهذه – بل إن أمن رئيس البرلمان (الغنوشي) كان من مشمولات الأمن الرئاسي، الذي لم يستمع إليه قاضي التحقيق إطلاقًا. كما ادعى الشاهد أن عبد القادر فرحات وكمال القيزاني كانا يقدمان تقارير سرية للغنوشي عبر البدوي دون أي دليل. ومن المزاعم الخيالية الأخرى المنسوبة للشاهد: أن كمال البدوي سهّل تعيينات لمسؤولين أمنيين كبار في وزارة الداخلية واستقطب إطارات أمنية عليا (تبين أن بعضهم على خلاف وعداوة سياسية مع النهضة ونُفيت شهادته تمامًا)؛ وأن البدوي تدخّل للسماح بدخول أمير خليجي كان ممنوعًا من ذلك، وهو أمر لم يثبت وقوعه أبدًا؛ وأن أحد المتهمين (رضا العياري) تربطه قرابة عائلية بقيادي نهضوي سابق (صالح كركر)، واتضح عدم صحة ذلك إطلاقًا. والأهم أن هذا الشاهد نفسه تراجع عن جزء كبير من أقواله خلال مراحل التحقيق المختلفة، وغير رواياته بشكل متضارب. ورغم ذلك، اعتمد عليه قاضي التحقيق في توجيه الاتهام دون السماح بمكافحته مع المتهمين أو تمكين الدفاع من استجوابه، مما يشكل انتهاكًا صارخًا لحق المتهم في مناقشة الأدلة والشهود.

إلى جانب ضعف الأدلة، سُجِّلت خروق إجرائية وقانونية خطيرة خلال التحقيق والإحالة على المحاكمة. فقد تبين أن دائرة الاتهام (غرفة الاتهام بمحكمة الاستئناف) التي نظرت في ملف القضية في أوت 2024 لم تكن مشكلة من قضاة القطب القضائي لمكافحة الإرهاب المختصين كما يقتضي القانون. بل أُحيل الملف على دائرة اتهام صيفية عادية لا تدخل في تركيبة القطب المتخصص، في خرق للفصلين 40 و49 من قانون مكافحة الإرهاب الذين يحصران النظر في الجرائم الإرهابية بالقضاة المعيّنين في القطب القضائي المختص. وقد دفع محامو الدفاع بعدم اختصاص تلك الدائرة، إلا أن اعتراضهم أهمل. كما تجاهلت دائرة الاتهام بشكل تام المطاعن الجوهرية التي قدمها الدفاع ضد قرار ختم البحث، ولم ترد على دفوع المحامين حول غياب الأدلة المادية وعيوب التحقيق. وهذا يعد مخالفة للفصل 110 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي يلزم دائرة الاتهام بالنظر في موضوع الاستئناف والرد على جميع المطاعن المؤثرة.

خلال جلسات المحاكمة ذاتها أمام المحكمة الابتدائية، شهدت الإجراءات إخلالات مسّت بحقوق الدفاع والمحاكمة العادلة. فقد قررت المحكمة إجراء المحاكمة عن بُعد عبر اتصال فيديو من السجن بذريعة وجود “خطر أمني”، ورفضت جلب المتهمين الموقوفين إلى قاعة الجلسة رغم احتجاجهم وطلبهم المثول حضوريًا. ووفق شهادات محامين من هيئة الدفاع، فإن المتهمين الذين حوكموا عن بعد لم يتمكنوا من رؤية سوى هيئة القضاة على الشاشة، ولم يروا محاميهم أو يسمعوا مرافعاتهم بسبب غياب تقنية التواصل المزدوج وانعدام الميكروفونات للدفاع. وقد وصف محامو الدفاع ذلك بأنه جعل حضورهم بلا معنى، وحال دون تفاعل موكليهم معهم أثناء الجلسة. كما أشار المحامون إلى صعوبات كبيرة في الحصول على نسخ من ملف القضية وتحضير وسائل الدفاع، حيث ماطلت إدارة المحكمة في تمكينهم من ملف الدعوى بحجج واهية. وتنتهك هذه الممارسات أبسط حقوق الدفاع والمساواة بين الخصوم، وتثير شكوكًا جدية في سلامة الإجراءات ونزاهة المحاكمة.

من زاوية قانونية موضوعية، يؤكد محامو الدفاع أن أركان الجرائم الإرهابية المنسوبة للمتهمين غير متوفرة بتاتًا. فمثلًا الفصل 13 من قانون مكافحة الإرهاب يعرّف العمل الإرهابي بأنه فعل إجرامي يُحدث فزعًا بين السكان أو يُجبر دولة على القيام بعمل أو الامتناع عنه تحت الإكراه. وهو ما لا ينطبق على وقائع هذه القضية إطلاقًا – إذ لم يُثبت وجود أي عمل عنيف أو مخطط إرهابي حقيقي قد يمس أمن العموم أو الدولة. كذلك فإن تهمة محاولة تغيير هيئة الدولة أو قلب نظام الحكم (الفصل 72 من المجلة الجزائية) تشترط قيام فعل مادي وبدء تنفيذ عملي، وهو ما لا دليل عليه إطلاقًا في الملف؛ فلا محاولة اغتيال أو احتلال لمنشآت أو تمرد مسلح، بل مجرد اتصالات هاتفية ولقاءات مزعومة لا ترقى لتكوين جرم انقلاب. وعليه فإن الوصف الجنائي الذي تبنته النيابة وقاضي التحقيق يفتقر للركن المادي ويتعارض مع مبدأ الشرعية الجنائية الذي يوجب تفسير التجريم بشكل صارم.

توظيف القضاء لتصفية الخصوم السياسيين

وقد اتخذت هذه المحاكمة صبغة سياسية انتقامية أكثر من كونها مسعى لحفظ الأمن العام حيث توحي خلفية القضية وقائمة المستهدفين فيها بأن السلطة الحاكمة سعت عبرها إلى استهداف القيادة السياسية للمعارضة وتحديدًا حركة النهضة، وكذلك شخصيات كانت مقربة من مؤسسات الدولة قبل 25 جويلية 2021 ثم اختلفت مع توجهات الرئيس. فشملت القضية قيادات الصف الأول في حركة النهضة (الغنوشي، العريّض، اللوز، رفيق عبد السلام…) إلى جانب مسؤولين بارزين من حكومات ما قبل إجراءات سعيد (يوسف الشاهد، لطفي زيتون، نادية عكاشة) وحتى نشطاء من تيارات مختلفة. هذا الخليط المتنافر فكريًا وسياسيًا يؤكد الطابع الاعتباطي والكيدي للقضية، إذ جرى جمع شخصيات لا رابط بينها في ملف واحد لخلق انطباع بوجود “تنظيم سري واسع” يتآمر على الدولة.

لقد جاء الزج براشد الغنوشي في أكثر من قضية خلال 2022 و2023 – آخرها هذه القضية – بهدف شلّ أكبر حزب سياسي وتحركات المعارضة تمامًا، وإيهام الرأي العام بوجود مؤامرة إرهابية خطيرة. فالغنوشي البالغ من العمر 82 عامًا وجد نفسه موقوفًا منذ أفريل 2023 على ذمة قضايا متعددة، بعضها مرتبط بتصريحاته وأنشطته السياسية (مثل قضية خطاب “الحرب الأهلية” المزعوم وقضية التمويل الأجنبي للحزب)، وبعضها الآخر كيدي تمامًا كهذه القضية التي نُسبت له فيها أدوار تنظيمية وهمية. وقد أعلن الغنوشي منذ البداية مقاطعته لمسار المحاكمة لاقتناعه بأنها محاكمة سياسية تفتقر لأبسط مقومات العدالة. وبالفعل، أكدت هيئة الدفاع عنه أن غيابه عن الجلسات هو موقف مبدئي احتجاجًا على “انتفاء شروط المحاكمة العادلة”. كما أشارت إلى أن بقية المتهمين الموقوفين مُنعوا أيضًا من الحضور في قاعة المحكمة والدفاع عن براءتهم، ما يجعل المحاكمة صورية وفق وصف المحامين.

علاوة على ذلك، تكشف مجريات التحقيق عن توظيف أطروحات قديمة وواهية لتشويه الخصوم. فقد أعادت النيابة إحياء مزاعم حول “الجهاز السري” التابع للنهضة – وهو مصطلح أطلقه معارضو الحركة في الماضي للحديث عن تنظيم أمني خفي مزعوم. غير أن قضية “الجهاز السري” الأصلية التي أثيرت قبل سنوات لم تسفر عن أي إدانة أو دليل قاطع. ورغم ذلك استندت سلطات التحقيق في “التآمر 2” على نفس الروايات المهجورة لتُلبس بها التهم للمعارضين الحاليين. فجرى اتهام بعض الشخصيات بالتعاون مع هذا “الجهاز” وتلقي تعليمات منه، ثم ثبت عند سماعها أمام المحكمة عدم صحة أقوال الشاهد السري بشأنها. كما ادعى الملف وجود تحركات واجتماعات بين المتهمين للإعداد لأعمال تخريبية، لكن لم يتم تقديم أي تسجيل أو وثيقة يعتد بها لإثبات تلك الاجتماعات. بل إن الشاهد المجهول نفسه تراجع لاحقًا عن كثير من تصريحاته، إلا أن قرار الاتهام تغاضى عن هذا التراجع وأبقى على نفس الرواية المفككة.

من الواضح – استنادًا لكل ما سبق – أن الهدف الحقيقي للقضية سياسي بالأساس. فالحكومة الحالية سعت من خلالها إلى: إزاحة خصوم سياسيين بارزين من المشهد عبر الزج بهم في السجون، وتشويه صورة الأحزاب المعارضة باتهامها زورًا بالإرهاب والخيانة، وخلق حالة خوف لدى الرأي العام عبر الإيحاء بوجود خطر أمني داخلي يستدعي إجراءات استثنائية. بيد أن الأدلة المقدّمة لتسويق هذا الخطر جاءت باهتة وتثير السخرية في معظمها: فجزء كبير منها ليس سوى مقالات صحفية منشورة في الإنترنت، أو مشاركات في مظاهرات مرخّص لها، أو اتصالات هاتفية عادية بين سياسيين لا تتضمن أي مضمون إرهابي. وهذا ما يؤكد لدى المراقبين الطابع المفبرك للقضية وسعي السلطة إلى تجريم العمل السياسي السلمي عبر لبس قانوني زائف.

وقد صرّح رياض الشعيبي القيادي في جبهة الخلاص (ومستشار سابق للغنوشي) أن “قضية التآمر 2 هي فصل جديد من المحاكمات الجائرة المفتعلة التي لا تقوم على أي وقائع حقيقية”. ووصف الشعيبي الملف بأنه “مبني بالكامل على شهادات واهية من وشاة مجهولين ولا يحقق الحد الأدنى من المحاكمة العادلة”. كما أعربت منظمات حقوقية دولية عن القلق العميق من تدهور استقلالية القضاء في تونس واستمرار استغلال الجهاز القضائي لتصفية الحسابات السياسية. واعتبرت هيومن رايتس ووتش أن التدخل المتزايد للسلطة التنفيذية في القضاء يقوّض بشكل جذري حقوق المحاكمة العادلة وسيادة القانون في تونس.

انتهاكات للدستور والقانون الدولي

تُمثل الإجراءات والأحكام في هذه القضية انتهاكًا لجملة من الضمانات الدستورية والمعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس. دستور 2022 التونسي (النافذ حاليًا) يقر صراحة مبدأ قرينة البراءة وحق المتهم في محاكمة عادلة تحترم فيها حقوق الدفاع. وينص مثلاً الفصل 34 على أن “المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تكفل له فيها جميع ضمانات الدفاع خلال مختلف أطوار التتبع والمحاكمة”. كما تنص مادة أخرى (الفصل 124) على أنه “لكل فرد الحق في محاكمة عادلة في آجال معقولة، والمتقاضون متساوون أمام القضاء، والحق في الدفاع مضمون”. هذه المبادئ الجوهرية أهدرها مسار قضية التآمر 2 بالكامل.

فحرمان المتهمين من الحضور العلني ومواجهة الشهود، وحجب الأدلة عن هيئة الدفاع، والتباطؤ المقصود في إجراءات النفاذ للملف، كلها تخالف حق التقاضي العادل المضمون دستورياً. كذلك، عدم حيادية الجهة المُتعهّدة (إحالة الملف لقضاة غير مختصين) يتعارض مع مبدأ القاضي الطبيعي المنصوص عليه ضمنيًا في الدستور والذي يستوجب مثول الشخص أمام قاضيه المختص قانونًا.

على الصعيد الدولي، تُلزم تونس بمعاهدات حقوقية عديدة وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (العهد الدولي)، الذي ينص في المادة 14 منه على ضمان حق كل متهم في محاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مختصة مستقلة ومحايدة. من أبسط حقوق المحاكمة العادلة وفق العهد: حق الاطلاع على أدلة الإثبات الموجهة ضد المتهم، وحق استجواب شهود الإثبات ومناقشتهم، وحق الدفاع في استدعاء شهود النفي. إلا أن المحاكمة عن بعد بالشكل الذي تمت به في هذه القضية حرمت المتهمين فعليًا من التواصل الفوري مع محاميهم أو سماع مرافعاتهم، كما استندت الإدانة إلى شاهد سري لم يتمكن الدفاع من مواجهته أو الطعن في أقواله. إضافة إلى ذلك، فإن التكييف الجنائي الملفق للتهم السياسية (تجريم نشاط سياسي ومدني سلمي بوصفه إرهابًا) ينتهك مبدأ الفصل بين النشاط السياسي السلمي والجريمة الجنائية، وهو ما شددت عليه المواثيق الدولية. وقد وصفت منظمة العفو الدولية محاكمة مماثلة في تونس بأنها “استخفاف صارخ” بالالتزامات الدولية وبالحقوق الأساسية مثل حرية التعبير والتجمع السلمي. كما أن إطالة مدة الإيقاف التحفظي لبعض المتهمين تجاوزت الحد القانوني (14 شهرًا وفق القانون التونسي) دون حكم، مما يجعل احتجازهم أقرب إلى الاعتقال التعسفي بموجب المعايير الأممية. كل هذه الانتهاكات تؤكد أن المحاكمة لم تلتزم بالمعايير الدنيا للعدالة

موقف مرصد الحرية لتونس وتوصياته

يعتبر مرصد الحرية لتونس أن القضية المعروفة إعلاميًا بـ”قضية التآمر 2″ ليست سوى فصل جديد من فصول الانتهاك الممنهج لحقوق الإنسان واستغلال القضاء لقمع المعارضين. ويرى المرصد أن الأحكام القاسية الصادرة في هذه القضية نتيجة محاكمة جائرة بنيت على أساس باطل، تكشف إصرار السلطة على المضي قدمًا في نهج تصفية الخصوم السياسيين تحت غطاء قانوني مهترئ. ويؤكد المرصد أن تونس اليوم تشهد انتكاسة خطيرة في مكتسبات دولة القانون، حيث يجري توظيف تهم الإرهاب والخيانة العظمى ضد النشطاء السياسيين والنشطاء السلميين، في محاولة لإسكات كل صوت معارض لسياسات الرئيس سعيّد الانفرادية. ويذكّر المرصد بأن حرية التعبير والتنظم السياسي والتظاهر السلمي هي حقوق مكفولة دستوريا ودوليا لا يجوز المساس بها تحت أي ذريعة أمنية مزعومة.

بناء على ما سبق، يقدم مرصد الحرية لتونس التوصيات التالية ويطالب بـ:

  1. الإفراج الفوري عن جميع الموقوفين في هذه القضية، باعتبار أن احتجازهم المطوّل يفتقر لأي سند قانوني سليم ويُعد ضربًا من الاعتقال التعسفي.
  2. إسقاط كل التهم المنسوبة للمتهمين والتي بُنيت على شهادة وحيدة متضاربة ومخفية الهوية دون أدلة مادية. فالاتهامات القائمة على الوشاية السرية تفتقر لأبسط مقومات الإثبات القضائي العادل.
  3. فتح تحقيق محايد في التجاوزات والإخلالات الإجرائية التي شهدها ملف القضية على مستوى البحث الابتدائي والتحقيق والمحاكمة. ويشمل ذلك التحقيق في قانونية قرارات دائرة الاتهام، ومدى احترام حقوق الدفاع، والكشف عن أي ضغوط أو تدخلات سياسية محتملة أثرت على مجرى العدالة.
  4. دعوة المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني باستقلال القضاة والمحامين إلى زيارة تونس في أقرب وقت لتقصي أوضاع السلطة القضائية.
  5. مناشدة المجتمع الدولي وشركاء تونس لحقوق الإنسان للتواصل مع السلطات التونسية من أجل وقف استعمال قوانين الإرهاب كأداة للاضطهاد السياسي. ويتعين على الجهات الدولية – وخاصة الدول الديمقراطية والهيئات الأممية والاتحاد الإفريقي – تذكير تونس بالتزاماتها وتعليق أي دعم أمني أو قضائي إلى حين تصحيح هذه المسار المنحرف عن سيادة القانون.

في الختام، يؤكد مرصد الحرية لتونس أن إعلاء مبادئ العدالة وحقوق الإنسان هو الضمانة الوحيدة لأمن واستقرار البلاد على المدى الطويل. إن محاربة الخصوم السياسيين عبر القضاء لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة السياسية وتمزيق النسيج الديمقراطي الوليد في تونس. لذا يدعو المرصد السلطات إلى العودة فورًا إلى نهج احترام الدستور والقانون، والكفّ عن شيطنة المعارضة السلمية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وفتح حوار وطني شامل يضم كل الأطراف لإنقاذ ما تبقى من المسار الديمقراطي.

المصادر

  1. وكالة الأناضول: “تونس.. حكم بسجن الغنوشي 14 عامًا في التآمر على أمن الدولة 2” (8 جويلية 2025).
  2. إذاعة إكسبريسFM والعربي الجديد: تفاصيل الأحكام الابتدائية في قضية “التآمر 2” (8 جويلية 2025).
  3. العربي الجديد: بيان هيئة دفاع الغنوشي حول المحاكمة عن بعد وغياب شروط المحاكمة العادلة (8 جويلية 2025).
  4. الجزيرة نت: تقرير عن جلسات المحاكمة عن بعد وانتهاك حقوق الدفاع في قضية “التآمر 2” (2 جويلية 2025).
  5. مرصد الحرية لتونس: “قضية مبنية على شهادة واحدة محجوبة ومتضاربة” – تحليل حقوقي وقانوني لقضية التآمر 2 (6 ماي 2025).
    مذكرة هيئة الدفاع (أهم المطاعن لدى التعقيب): أمثلة على تناقضات الشاهد السري وغياب الأدلة.
  6. المرجع السابق – خروقات قانونية في اختصاص دائرة الاتهام وإهمال مطاعن الدفاع.
  7. الجزيرة نت ومرصد الحرية لتونس:  العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ومنظمة العفو الدولية – معايير المحاكمة العادلة وتدهور استقلال القضاء في تونس.
    منظمة العفو الدولية (عبر الجزيرة نت): بيان يدين الأحكام الجماعية ضد المعارضين ويصفها بالمحاكمة الصورية (20 أفريل 2025).
    الجزيرة نت: تصريح رياض الشعيبي حول الطبيعة المفتعلة لقضية “التآمر 2” (2 جويلية 2025).

نداء إلى العمل من أجل حقوق الإنسان في تونس

عريضة الموقع: الحرية لمعتقلي الرأي والنشطاء في تونس !

‎لم تعد تونس الاستثناء العربي الوحيد الذي أشعل فتيل الثورات في العالم سنة 2011 بثورة بطولية أطاحت بحكم زين العابدين بن علي، الذي ظل مستمرا لمدة تناهز 23 سنة بعد استيلاءه على السلطة في 7 نوفمبر 1987 خلفا للحبيب بورقيبة.

في خطوة مماثلة وربما أكثر خطورة، أقدم الرئيس التونسي قيس سعيد ليلة 25 يوليو 2021 على القيام “بانقلاب دستوري” وفقا لتأويله الشخصي للفصل 80 من دستور الثورة 2014 مُعلنا اتخاذه مجموعة من الإجراءات الاستثنائية بسبب “خطر داهم” يهدد البلاد التونسية دون تقديم أي تفاصيل وأسباب الى حدّ كتابة هذه الأسطر.

وبموجب تلك الإجراءات قرر سعيّد عزل الحكومة ورئيسها “هشام المشيشي” الذي كان حاضرا في اجتماع مجلس الأمن القومي تلك الليلة بقصر قرطاج، وزعم أنه اتصل برئيس البرلمان راشد الغنوشي (زعيم حزب حركة النهضة) للتشاور معه وفق ما يمليه الدستور، الأمر الذي نفاه الغنوشي مؤكدا انه اتصال عادي لم يتضمن أي مشاورات أو حديث حول فحوى الإجراءات الاستثنائية، وقام الرئيس بتجميد أعمال البرلمان ثم حله في مارس/ آذار 2022.

ولم يكتف الرئيس سعيّد بتجاوز صلاحياته وفصول الدستور التي أقسم على الحفاظ عليه أمام مجلس نواب الشعب بل وقام بتغيير تركيبة المجلس الأعلى للقضاء واعتبره “وظيفة” وليس سلطة مستقلة بذاتها وقام أيضا بتغيير تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تحضيرا لمراحل انتخابية عقدها لفائدة تغيير دستور كتبه بنفسه وألغى آراء اللجان الاستشارية التي عينها بنفسه أيضا. ثم نظم انتخابات تشريعية على دورتين لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 8% من مجموع الناخيبن وتداركت هيئة الانتخابات الاحصائيات فيما بعد لتعلن أنها وصلت لـ11 %وهو الرقم الأدنى عالميا ومحليا.

بتاريخ 11 فبراير/شباط شن نظام الرئيس سعيد حملة اعتقالات لم تتوقف، شملت نشطاء سياسيين ورجال أعمال واعلاميين وصحفيين وقضاة وموظفين سامين في الدولة تحت عنوان “التآمر على أمن الدولة وارتكاب فعل موحش ضد رئيس الجمهورية” إضافة لتهم أخرى تم إحالتها على النيابة العسكرية ما يطرح أسئلة حول مدى تدخل الجيش التونسي في الإجراءات التي قام بها الرئيس سعيد.

وقد شابت عمليات الاعتقال التعسفي عدة خروقات وإخلالات إجرائية وسط تحذيرات من المنظمات والمراصد الدولية الناشطة بمجال حقوق الانسان ولم يتم احترام معايير التقاضي والإقامة السجنية وطالت الملاحقات في بعض الأحيان عائلات الضحايا وأسرهم ووظائفهم ولم يتم إثبات أي تهم أو وقائع منسوبة للمتهمين.

كما تتعرض النقابات والأحزاب السياسية لمضايقات مستمرة ولم يتوقف الرئيس سعيد عن اتهام كافة الأجسام الوسيطة بمختلف أنواعها “بالعمالة” أو “الخيانة” ولم تسلم المنظمات والجمعيات من الملاحقات والاعتقالات التعسفية والحرمان من التمثيل القانوني وسط ارتفاع وتيرة العنف في المجتمع بسبب تبني السلطات خطابات وشعارات عنصرية وتمييزية محرضة على الاقتتال وانتهاك الكرامة الإنسانية.

على ضوء كل ما تقدمنا به من أسباب نحن الموقعون أسفله نطالب:

أولا: بالدعوة لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين فوراً ودون قيد أو شرط كما نحثَ السلطات التونسية على احترام التزاماتها الدولية والمعاهدات الدولية لحقوق الانسان التي صادقت عليها.

ثانيا: ندعو من السلطات التونسية أن توقف نزيف نسف الديمقراطية الناشئة والمحاكمات الجائرة والملاحقات المستمرة ضد خصوم النظام السياسيين وكل من ينتقده بالرأي او الكلمة او التعبير.

ثالثا: ندعو كل النشطاء والمتابعين للانخراط في المسار الوطني والدولي لإعادة الديمقراطية وإنهاء الحكم الفردي الذي عاد بتونس لسنوات الاستبداد والظلم وانتهاك الحقوق والحريات.