01 سبتمبر 2025 – منذ 25 جويلية 2021 تاريخ استحواذ الرئيس التونسي قيس سعيّد على السلطات التنفيذية والتشريعية – تشهد تونس تراجعًا حادًا في أوضاع حقوق الإنسان وسيادة القانون. فقد استخدمت السلطات التونسية على نحو متزايد قانون مكافحة الإرهاب وقضايا فضفاضة مثل تهمة “التآمر على أمن الدولة” لاستهداف المعارضين والنشطاء والصحفيين المنتقدين للرئيس. ووُظّف القطب القضائي لمكافحة الإرهاب (وهو جهاز قضائي متخصص أُنشئ لملاحقة جرائم الإرهاب) كأداة لمحاكمة خصوم سعيّد السياسيين، في انحراف خطير عن هدف إنشائه الأصلي. وانتقدت منظمات دولية هذا التوجه، معتبرةً أنه يظهر استخدام الرئيس قيس سعيّد للقضاء لترسيخ حكم استبدادي وإسكات كل أشكال المعارضة السلمية. وبذلك، يتم استنزاف موارد الدولة المخصصة لمكافحة الإرهاب الحقيقي وتحويلها إلى وقود لحملة قمع سياسي غير مسبوقة في تونس.
قانون الإرهاب والقطب القضائي المتخصص:
صادقت تونس عام 2015 على قانون جديد وشامل لمكافحة الإرهاب وغسل الأموال، عوض قانون 2003، بهدف تعزيز قدرات الدولة في التصدي للجماعات الإرهابية خاصة بعد سلسلة هجمات دامية ذلك العام. يمنح هذا القانون السلطات صلاحيات واسعة، منها إمكانية الاحتجاز لفترة تصل إلى 15 يومًا دون توجيه تهمة رسمية مع منع الاتصال بمحامٍ خلال الـ 48 ساعة الأولى. وقد حذرت منظمات حقوقية حينها من أن تعريف الإرهاب الفضفاض وإجراءات التوقيف المطوّلة قد تقوض الضمانات الأساسية للمحتجزين.
ضمن جهود دعم تونس أمنيًا بعد الثورة، ساهم شركاء دوليون في تمويل وتدريب أجهزة مكافحة الإرهاب وإنشاء هياكل متخصصة. وأُطلق في تونس ما يُعرف بـ”القطب القضائي لمكافحة الإرهاب” ضمن المحكمة الابتدائية بالعاصمة، للنظر حصريًا في قضايا الإرهاب الخطيرة. وقد كان الهدف المعلن لهذه المساعدات والآليات هو اجتثاث الإرهاب والتطرف مع احترام دولة القانون – وليس ملاحقة المعارضين السياسيين وانتهاك الحريات التي جاءت الثورة التونسية لصونها.
السيطرة على القضاء بعد 25 جويلية 2021:
أدخل الرئيس قيس سعيّد تونس في منعطف حاسم ليلة 25 جويلية 2021 عندما جمّد عمل البرلمان وتولّى سلطات استثنائية خاصة بعد تعيين حكومة تعمل تحت تعليماته. منذ ذلك الحين، تعاظم تغوّل السلطة التنفيذية على القضاء بشكل أثار قلق المراقبين. ففي 12 فيفري 2022، أصدر سعيّد مرسومًا حلّ بموجبه المجلس الأعلى للقضاء المنتخب واستبدله بمجلس مؤقت معيّن، مما جعله فعليًا رئيسًا للسلطة القضائية. ثم في جوان 2022 أقال عشرات القضاة بشكل تعسّفي باتهامات فضفاضة مثل “تعطيل تحقيقات إرهابية” و”فساد أخلاقي” دون منحهم حق الدفاع أو اتباع الإجراءات التأديبية الواجبة. وعلى الرغم من حكم المحكمة الإدارية بإبطال غالبية تلك الإعفاءات وإعادة القضاة لمناصبهم، رفضت السلطة التنفيذية الامتثال.
الأخطر أن وزارة العدل استعملت القطب القضائي لمكافحة الإرهاب لفتح قضايا جزائية ضد 13 قاضيًا من الذين شملهم قرار الإعفاء وكسبوا طعونهم قضائيًا. هذا التطور غير المسبوق – أي محاكمة قضاة أمام هيئة مكافحة الإرهاب – اعتبرته المنظمات الحقوقية استغلالًا خطيرًا للإجراءات والقوانين بغرض ترهيب القضاة واستكمال هيمنة الرئيس على المنظومة القضائية. وبالتوازي، أحيل العديد من المدنيين إلى القضاء العسكري لمجرد انتقادهم لمسؤولين، في توسّع آخر لاختصاص المحاكم الاستثنائية على حساب القضاء المدني.
في هذا السياق المتوتر، مهّد الرئيس سعيّد الأرضية لملاحقة خصومه عبر القضاء. فبعد أن نصب نفسه رأسًا للنيابة العمومية وأقال وعزل عشرات القضاة، بدأ في وصم معارضيه علنًا بالإرهابيين والخونة. فخلال خطاب متلفز في 14 فيفري 2023 – قبيل موجة اعتقالات كبرى – أشار سعيّد إلى بعض الشخصيات (من دون تسميتهم) واصفًا إياهم بأنهم “إرهابيون” يتآمرون على الدولة. وحتى قبل أن تُوجّه لأي منهم تهمة رسمية، كان الرئيس يُعلن إدانتهم ويهدد بأنه “من يجرؤ على تبرئتهم فهو شريك لهم“. هذه التصريحات العلنية من رأس السلطة وضعت ضغطًا هائلًا على القضاة ووكلاء النيابة، وانتهكت مبدأ قرينة البراءة للمتهمين. وقد نبّهت هيومن رايتس ووتش إلى أن هذا جزء من سلسلة هجمات يشنها سعيّد على استقلالية القضاء ويقوّض الثقة بإدارة العدالة.
قانون الإرهاب كأداة لقمع المعارضة:
بعد إحكام القبضة على مؤسسات الدولة، شرع الرئيس سعيّد في تنفيذ حملة ايقافات استهدفت قادة الأحزاب المعارضة ونشطاء بارزين، تحت غطاء تهم تتعلق بأمن الدولة والإرهاب. كانت ذروة هذه الحملة في فيفري 2023 حين نفّذت قوات الأمن سلسلة مداهمات واعتقالات هي الأوسع منذ 2011. بين يومي 11 و15 فيفري 2023 وحدهما، اعتُقل ما لا يقل عن تسعة أشخاص، منهم خمسة معارضين بارزين (من توجهات مختلفة) وقاضيان ورجل أعمال ومدير محطة إذاعية. تبع ذلك موجة ثانية في 22 و24 فيفري شملت قيادات في جبهة الخلاص الوطني (ائتلاف معارض)، مثل اعتقال الناشطة شيماء عيسى والسياسي عصام الشابي واعتقال أستاذ القانون والناشط جوهر بن مبارك.
جميع هذه الاعتقالات وُجّهت في النهاية ضمن ما عُرف بـ “قضية التآمر على أمن الدولة“. أُحيل الموقوفون على القطب القضائي لمكافحة الإرهاب ووجهت إليهم تهم خطيرة تتعلق بـ “التآمر المقصود به الاعتداء على أمن الدولة الداخلي والخارجي” بموجب فصول من المجلة الجزائية وقانون الإرهاب. وقد أفضى ذلك إلى فتح تحقيق شامل جمع هؤلاء المعارضين في ملف واحد بزعم وجود مؤامرة منظمة. الجدير بالذكر أن محاميي الدفاع أكدوا أن الملفات خلت من أدلة جدّية تدعم هذه المزاعم الخطيرة، وإنما اعتمدت أساسًا على وشاية من مخبر مجهول وهواجس أمنية وتفسيرات لنقاشات سياسية علنية.
فيما يلي جدول يلخّص أبرز الشخصيات المعارضة والنشطاء الذين طالتهم حملات الاعتقال بتهمة التآمر وغيرها من القضايا السياسية، مع الإشارة إلى صفاتهم والتهم الموجهة إليهم ووضعهم الحالي:
الاسم | الصفة / الوظيفة | تاريخ الإيقاف | التهم الموجهة | ||
راشد الغنوشي |
| 17 أفريل 2023 | تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (بسبب تصريحات سياسية) | ||
غازي الشواشي |
| 13 فيفري 2023 | تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري) | ||
خيام التركي | ناشط سياسي مستقل ومؤسس منتدى جسور وعضو سابق بحزب التكتل | 11 فيفري 2023 | تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري) | ||
جوهر بن مبارك | أستاذ قانون دستوري وقيادي في جبهة الخلاص الوطني | 24 فيفري 2023 | تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري) | ||
عصام الشابي |
| 22 فيفري 2023 | تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري) | ||
شيماء عيسى |
| 22 فيفري 2023 | تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري) | ||
عبد الحميد الجلاصي | قيادي سابق بحركة النهضة (مستقيل منها) | 11 فيفري 2023 | تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري) | ||
رضا بلحاج |
| 14 فيفري 2023 | تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري) | ||
نور الدين البحيري | وزير عدل أسبق وقيادي بحركة النهضة | 31 ديسمبر 2021 (وضع قيد الإقامة الجبرية)؛ اعتقل من جديد في 2022 | تهم مختلفة ثم أُدرج اسمه ضمن ملف التآمر | ||
نور الدين بو طار | صحفي ومدير إذاعة موزاييك إف إم المستقلة | 13 فيفري 2023 | تهم فساد مالي وتبييض أموال | ||
أحمد صواب | محام وقاضي سابق | 21 أفريل 2025 | الانضمام إلى وفاق إرهابي والتآمر على أمن الدولة الداخلي |
ملاحظة: الجدول أعلاه ليس شاملًا لجميع الحالات، لكنه يبرز أهم الأمثلة من مختلف الاتجاهات (إسلاميين وقوميين ويساريين وتقدميين) ممن وجدوا أنفسهم ملاحقين بموجب تهم ارهابية.
تكشف الشهادات والوثائق التي تسربت من ملفات القضايا عن ضعف الأسس الإثباتية وراء هذه الاتهامات الخطيرة. إذ ارتكزت تحقيقات قضية “التآمر” مثلا على إفادات مخبرين سريين زعموا وجود اجتماعات وتحركات لإسقاط النظام دون تقديم أدلة مادية ملموسة. حتى أن محاضر استجواب بعض المتهمين تطرقت إلى آرائهم العلنية وانتقاداتهم السياسية أو مضامين برامج إذاعية، وتم اعتبارها قرائن على التآمر. وقد ندّدت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وغيرها بما اعتبرته “قضايا ملفقة مبنية على تهم فضفاضة بهدف تصفية المعارضين”.
بالإضافة إلى السياسيين، طالت الملاحقات المسيسة تحت غطاء الإرهاب طيفًا من النشطاء والصحفيين وحتى العاملين بالمجال الإنساني. فمثلاً في ماي 2023، تجمع عشرات الصحفيين في تونس هاتفين “نحن صحفيون لا إرهابيون” إثر تأكيد محكمة استئناف لحكم بسجن الصحفي خليفة القاسمي 5 سنوات بموجب قانون الإرهاب. كان قد جُرم القاسمي بعد نشره خبرًا حول تفكيك خلية إرهابية ورفض الكشف عن مصدره الأمني، فاعتُبر ذلك إفشاءً لمعلومات أمنية. واعتبرت نقابة الصحفيين هذه السابقة تهديدًا خطيرًا لحرية الصحافة، مؤكدةً وجود توجه سياسي لقمع الإعلام عبر توظيف قوانين الإرهاب وقوانين أخرى قمعية.
كما شهد شهر نوفمبر 2024 حادثة أثارت استياءً واسعًا في الأوساط الحقوقية، إذ أُحيل نشطاء في مجال دعم المهاجرين على القطب القضائي لمكافحة الإرهاب لأول مرة. فقد أوقفت السلطات خمسة أعضاء في جمعية تنشط بجنوب تونس لمساعدة المهاجرين غير النظاميين، من بينهم رئيس الجمعية عبد الله السعيد (تونسي) وأحالتهم إلى التحقيق بتهمة “تكوين وفاق لاستقبال وتوطين المهاجرين بدعم خارجي” ووصف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية هذه الإحالة بأنها مؤشر خطير ورسالة تخويف لمنظمات المجتمع المدني العاملة بالمجال الإنساني. فبدلاً من حصر دور جهاز مكافحة الإرهاب في التصدي للتطرف العنيف، بات يستعمل لملاحقة من يقدمون مساعدات إنسانية أو يمارسون حقهم في التعبير والتنظيم.
محاكمات جائرة وانتهاكات للعدالة:
لم تقتصر تجاوزات السلطات على الايقافات التعسفية، بل امتدت إلى انتهاك أبسط ضمانات المحاكمة العادلة أثناء النظر في هذه القضايا. فقد أُبقي معظم الموقوفين رهن الحبس الاحتياطي المطوّل لمدد تجاوزت 14 شهرًا (الحد القانوني) دون إفراج مؤقت، وأحيلوا إلى جلسات محاكمة عن بُعد عبر الشاشات التلفزيونية من السجن. ففي مارس وأفريل 2025، قررت المحكمة إجراء محاكمة مجموعة متهمي قضية التآمر (أكثر من 40 شخصًا) بجلسات عبر الفيديو دون إحضارهم إلى قاعة المحكمة، بدعوى وجود “تهديد أمني حقيقي”. واحتجّ المحامون وعائلات المتهمين بشدة على هذا الإجراء الاستثنائي، ورأى فيه المعتقلون تعديًا على حقهم في المثول العلني. ورفض جميع المعتقلين آنذاك المشاركة في المحاكمة عن بعد وأعلنوا إضراب جوع جماعي خلال أفريل 2025 كحركة احتجاجية. ورغم ذلك مضت المحكمة في عقد الجلسات وإصدار الأحكام دونهم، متجاهلةً طلبات التأجيل وإحضارهم.
كذلك، مُنع الصحفيون والمراقبون المستقلون في عدة مناسبات من دخول قاعة المحكمة أثناء جلسات قضايا الإرهاب ذات الصبغة السياسية. وأدانت نقابة الصحفيين التونسيين (SNJT) تلك التضييقات واعتبرتها دليلاً على غياب الشفافية في هذه المحاكمات. كما اشتكى المحامون من صعوبة الاطلاع على ملفات القضايا أحيانًا، ومن عدم تمكينهم من التواصل الكافي مع موكليهم بسبب ظروف الاحتجاز المشددة.
أما الأحكام الصادرة عن الدوائر الجنائية المختصة بالنظر في قضايا الإرهاب فقد كانت بالغة القسوة وصدمت الرأي العام. ففي فجر 19 أفريل 2025 أصدرت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية في تونس أحكامًا جماعية بالسجن على 40 متهما في ما عُرف إعلاميًا بقضية “التآمر الأولى” تراوحت الأحكام بين 13 سنة و66 سنة. سجنًا. وقد وصفت منظمة العفو الدولية المحاكمة بأنها “مهزلة للعدالة“ نظراً لما شابها من خروقات إجرائية وغياب الحد الأدنى من حقوق الدفاع. وأكدت المنظمة أن المتهمين حُوكموا وأدينوا فقط بسبب ممارستهم السلمية لحقوقهم في التعبير والتنظيم، وندّدت بالاعتماد على تُهم “ملفقة وغير مسندة بأي أدلة حقيقية“. ودعت العفو الدولية السلطاتِ إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع من سُجنوا لمجرد نشاطهم السياسي السلمي أو انتقادهم للرئيس.
بعد أشهر من ذلك، وفي 8 جويلية 2025 اختُتمت محاكمة ثانية جماعية عُرفت باسم “قضية التآمر 2” وشملت 21 متهمًا آخر من رموز المعارضة والمسؤولين السابقين. أصدرت المحكمة الابتدائية بتونس أحكامًا جديدة بالسجن بين 12 و35 سنة على هؤلاء المتهمين. وحكمت على راشد الغنوشي – الذي قاطع المحاكمة رافضًا المشاركة عبر الفيديو – بالسجن 14 عامًا (غيابيًا، وعلى مديرة الديوان الرئاسي السابقة نادية عكاشة (خارج البلاد) بـ 35 عامًا، كما أدانت وزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام وضباط أمنيين سابقين بأحكام قاسية (بلغت 35 عامًا للبعض) وقد علّقت منظمة العفو بأن هذه الإدانات الجماعية الجديدة دليل إضافي على أزمة دولة القانون في تونس، إذ تستمر السلطات في توظيف تهم الإرهاب المبهمة لقمع المعارضة السلمية وتقويض استقلال القضاء.
من جانبها، وثّقت هيومن رايتس ووتش أيضًا ما وصفته بـ”الحملة الأكثر ضراوة على المعارضة منذ 2011″. وأشارت المنظمة إلى استغلال الرئيس سعيّد سلطات النيابة وتدخّله في القضاء لاعتقال منتقديه واحدًا تلو الآخر، ووصمهم بالإرهاب دون أدلة. وقالت مديرة المنظمة في تونس سلسبيل شلالي “بعد أن نصّب الرئيس نفسه مسؤولاً عن النيابة وأقال القضاة يمينًا ويسارًا، بات الآن يلاحق منتقديه بمنهج إقصائي ويصفهم بالإرهابيين دون أدلة موثوقة” وأبرزت المنظمة غياب التهم المحددة أو الأدلة القاطعة ضد العديد من الموقوفين، ومنهم قادة أحزاب وصحفيون وقضاة، معتبرةً أن ما جرى هو اعتقالات بدوافع سياسية واضحة.
استنزاف موارد مكافحة الإرهاب لأغراض سياسية:
إن توظيف جهاز مكافحة الإرهاب في غير محله لا يشكّل خرقًا لحقوق المواطنين فحسب، بل ينعكس سلبًا أيضًا على فاعلية الدولة في مواجهة الإرهاب الحقيقي ويبدّد الموارد المحدودة المخصّصة للأمن. فمنذ 2011، تلقت تونس دعمًا ماليًا وفنيًا كبيرًا لتعزيز قدراتها ضد التنظيمات الإرهابية التي استهدفت أمنها ومواطنيها. وقد اُستثمرت مبالغ طائلة في تدريب وحدات الأمن الخاصة وتجهيز المحاكم وبناء أجهزة استخباراتية وعسكرية فعالة. وكان يُفترض أن تُصرف هذه الموارد المالية والبشرية لتعزيز أمن الدولة ومكافحة التطرف العنيف وحماية التجربة الديمقراطية الفتية. لكن واقع الأمر اليوم أن قسمًا كبيرًا من جهد الأجهزة الأمنية والقضائية يُستنزف في ملاحقة صحفي يكتب مقالًا ناقدًا أو سياسي يُدلي بتصريح معارض. وبدل أن يُعزَّز القطب الأمني والقضائي لمكافحة الإرهاب بموارد إضافية لرصد الخلايا الإرهابية النائمة ومتابعة تحركاتها، نجده مُنشغلًا بعقد محاكمات ماراطونية للمعارضين وإعداد لوائح اتهام فضفاضة ضد ناشطي المجتمع المدني.
هذا الانحراف يمثّل خطرًا أمنيًا في حد ذاته. فوفق خبراء مكافحة الإرهاب، تؤدي ممارسة القمع والتضييق على الحريات إلى خلق مناخ من الاحتقان والغضب الشعبي، مما قد يغذي التطرف بدل أن يطفئه. كما أن تحويل وجهة أجهزة الأمن عن مهامها الأصلية يترك ثغرات قد تستغلها الخلايا الإرهابية الحقيقية. وقد حذرت مجموعة الأزمات الدولية سابقًا من أن التركيز على إخراس المعارضة السياسية يأتي على حساب التركيز المطلوب لمواجهة تهديدات كتنظيم “داعش” العابر للحدود. وفي ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة بالبلاد، ينشغل النظام بمطاردة منتقديه بدل معالجة أسباب التوتر التي قد يستغلها المتطرفون لتجنيد اليائسين.
إضافة إلى ذلك، فإن مصداقية تونس الدولية على المحكّ. فالدول والمؤسسات التي دعمت تونس أمنيًا منذ الثورة عبّرت عن صدمتها من هذا المسار. وقد دعا الاتحاد الأوروبي وشركاء آخرون السلطاتِ مرارًا إلى احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان كشرط لاستمرار التعاون والدعم. حتى أن شبكة أوروميد للحقوق طالبت في ماي 2023 بربط أي تمويل أو دعم أوروبي لتونس بالتزامها بمبادئ حقوق الإنسان، بما في ذلك الدعم اللوجستي والمالي الموجّه لقطاع الأمن والقضاء. واعتبرت الشبكة أن ما يحدث هو “تخلي تام عن دولة القانون” في تونس، مما يستوجب موقفًا دوليًا حازمًا. ومن شأن استمرار السلطات التونسية في تسخير قانون الإرهاب ضد النشطاء أن يعرّض البلاد لعزلة دولية وتجميد لمساعدات هي في أمسّ الحاجة إليها، في وقت يتفاوض فيه النظام أيضًا على دعم مالي لموازنة الدولة المتهاوية.
على صعيد آخر، تعاني مؤسسات الدولة التونسية اليوم من التسييس والاستنزاف؛ فالقطب القضائي المتخصص الذي بُنِيَ بدعم دولي لمكافحة الإرهاب باتت سمعته مرتبطة بقضايا مسيسة تفتقر لأدلة جدية. وتزعزعت ثقة المواطنين في هذا الجهاز، حيث يرى كثيرون أنه تحول إلى مجرد أداة بيد السلطة التنفيذية لتصفية الحسابات السياسية. وهذا يضرّ بهيبة القضاء ويقوّض كل ما أُنجز من إصلاحات في القطاع الأمني بعد الثورة. لقد كان تعزيز استقلال القضاء وحوكمة القطاع الأمني من أهم مكاسب 2011، لكن تحويل وجهة المؤسسات عن مهامها الدستورية أرجع البلاد خطوات إلى الوراء.
تمويل القطب القضائي لمكافحة الإرهاب:
تأسس القطب القضائي لمكافحة الإرهاب في تونس عام 2015 كهيكل قضائي متخصص للنظر في القضايا ذات الصبغة الإرهابية.
وحظي القطب القضائي لمكافحة الإرهاب (ضمن المحكمة الابتدائية بتونس) بدعم مالي ولوجستي كبير من شركاء دوليين. فقد موَّل الاتحاد الأوروبي برامج متعددة لتعزيز قدرات القضاء والأمن في مكافحة الإرهاب. على سبيل المثال، أطلق برنامج إصلاح القضاء PARJ عام 2012 بميزانية 25 مليون يورو وأُضيفت إليه 15 مليون يورو عام 2015 ليصل إجمالي الدعم الأوروبي لقطاع العدالة إلى 40 مليون يورو على شكل هبات. ورغم أن هذا البرنامج شمولي لإصلاح العدالة، إلا أنه أفاد بصورة غير مباشرة المؤسسات المكلفة بقضايا الإرهاب عبر تحديث البنية التحتية للمحاكم وتجهيزها رقمياً وتدريب القضاة. بالإضافة إلى ذلك، موَّل الاتحاد الأوروبي مشروعًا متخصصًا لمكافحة الإرهاب حمل اسم “ATRAS” ( امتد من 2019 إلى 2022) بقيمة 2.4 مليون يورو، وتركز على تعزيز قدرات ست مؤسسات تونسية من بينها القطب القضائي لمكافحة الإرهاب نفسه. كما خصصت أدوات التمويل الأوروبية الأحدث مبلغ 6 ملايين يورو لعامي 2023–2024 لدعم برامج مكافحة الإرهاب في تونس (مثل المشاركة في منصّة عالمية لمكافحة تمويل الإرهاب ومنع التطرف).
من جهتها قدّمت الولايات المتحدة دعمًا ملحوظًا لتونس في مجال مكافحة الإرهاب شمل جوانب أمنية وقضائية. فمنذ 2011 تجاوز مجموع المساعدات الأمنية الأمريكية 250 مليون دولار لدعم تونس في مواجهة التهديدات الإرهابية الداخلية والإقليمية. وُجِّه جزء من هذا الدعم لتحسين قدرات القضاء على معالجة قضايا الإرهاب. على سبيل المثال، موّلت وزارة الخارجية الأمريكية عبر مكتب مكافحة الإرهاب مشاريع لتأمين المحاكم المختصة بقضايا الإرهاب في تونس، حيث نُفِّذت أعمال تطوير للبنية التحتية الأمنية في مقرات القطب القضائي بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع ( UNOPS). شملت هذه الأعمال تجهيزات أمنية متخصصة مثل تجديد زنزانات المحتجزين وإنشاء ممرات آمنة لنقلهم وتعزيز أنظمة الدخول إلى مباني المحكمة. وإلى جانب ذلك، وفر برنامج المساعدة الفنية التابع لوزارة العدل الأمريكية (ICITAP) تدريبات واستشارات لتحسين تأمين المحاكم بالتنسيق مع وزارتي العدل والداخلية التونسيتين. أيضًا استفاد قضاة ووكلاء القطب من دورات تدريبية عديدة نظمتها جهات دولية لرفع كفاءتهم في تطبيق قانون مكافحة الإرهاب مع احترام معايير حقوق الإنسان. وقد أشار تقرير للأمم المتحدة عام 2017 إلى أن السلطات التونسية أبدت التزامًا بتعزيز قدرات القطب القضائي لمكافحة الإرهاب رغم ما كان يعانيه من نقص الموارد في بداياته.
الميزانية السنوية والرواتب:
- يُموَّل القطب القضائي لمكافحة الإرهاب من الميزانية العامة لوزارة العدل التونسية، ولا تُنشر عادة أرقام مفصّلة عن مخصّصاته السنوية بشكل مستقل. بالإضافة إلى الرواتب الأساسية للقضاة (التي تُحدد وفق السلم الوظيفي العام للقضاء التونسي)، اتخذت الحكومة إجراءات لضمان حوافز خاصة للعاملين فيه. ففي عام 2017، أقرت وزارة العدل منحة خصوصية شهرية قدرها “300 دينار تونسي” للقضاة الملحقين بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب (وأيضًا القطب الاقتصادي والمالي) كما مُنِح قضاة القطب امتيازات عينية إضافية (مثل وسائل نقل وظيفية محسّنة) لتحفيزهم. أما بقية الموظفين والأعوان الإداريين فيعملون ضمن هيكلة وزارة العدل المعتادة، وتمول نفقاتهم التشغيلية من ميزانية الدولة. بالإضافة إلى هذا، تم تدشين مقر مستقل للقطب القضائي نهاية عام 2014 بتمويل حكومي، بهدف توفير بنية تحتية ملائمة وآمنة للنظر في قضايا الإرهاب الحساسة.
الأمم المتحدة وشركاء دوليون آخرون: قدمت الأمم المتحدة عبر هيئاتها المختصة – مثل مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) – برامج لبناء قدرات القضاة ووكلاء النيابة في قضايا الإرهاب. كما ساهم المعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون (IIJ) بدعم من حكومات غربية في تنظيم دورات تدريبية متقدمة للقضاة التونسيين حول ضمانات المحاكمة العادلة في قضايا الإرهاب وحماية حقوق الإنسان أثناء إجراءات مكافحة الإرهاب. وشملت أوجه الدعم الأممي أيضًا تحديث أساليب التحقيق والتقاضي وتبادل الخبرات الدولية، وذلك في إطار تنفيذ الإستراتيجيات الوطنية لمكافحة التطرف العنيف. ورغم أن هذا الدعم الفني لا يُقاس بالأرقام المالية ذاتها، إلا أنه أسهم في صياغة أدلة إجراءات وممارسات فضلى عززت معارف القضاء التونسي في هذا المجال.
في المحصلة، تكشف المعطيات أن عشرات ملايين الدولارات واليورو قد وُجّهت لتحسين قطاع العدالة ومكافحة الإرهاب في تونس منذ 2011 عبر دعم دولي وبرامج وطنية. لكن أثر هذه التمويلات والدعم اصطدم بالواقع السياسي.
دعوات لإنهاء الملاحقات واستعادة دولة القانون:
أمام هذه التطورات الخطيرة، تتعالى أصوات محلية ودولية مطالبةً السلطات التونسية بـ الكف عن استغلال قوانين الإرهاب في غير موضعها ووقف حملة القمع المستمرة منذ 2021. في فيفري 2025، أصدر فولكر تورك المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة بيانًا دعا فيه الحكومة التونسية إلى إنهاء جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير. وطالب البيان بالإفراج الفوري – لأسباب إنسانية – عن المحتجزين من كبار السن والمرضى. كما حثّت مفوضية الأمم المتحدة على مراجعة التشريعات الجزائية في تونس وضمان اتساقها مع المعايير الدولية، نظرًا لأن عشرات النشطاء والصحفيين والسياسيين يواجهون اتهامات فضفاضة وغامضة فقط نتيجة ممارستهم حقوقهم.
بدورها، أكدت هيومن رايتس ووتش أن على الرئيس سعيّد التوقف عن ملاحقة منتقديه بنصوص الإرهاب والكف عن خطاب التخوين الذي يؤجج الاستقطاب. وشدّدت على ضرورة إلغاء الأحكام المسيسة الصادرة وإطلاق سراح من سُجنوا تعسفيًا، فضلًا عن إعادة القضاة المفصولين وإنهاء تدخل السلطة التنفيذية في القضاء. كما دعت منظمة العفو الدولية في بيانات متتالية إلى إطلاق سراح جميع من اعتُقلوا لمجرد ممارسة حقهم في التعبير أو الانتماء السياسي فورًا. واعتبرت أن ما يحدث في تونس اليوم يمثل “انتهاكًا صارخًا لالتزاماتها الحقوقية الدولية”، محذرةً من نمط مقلق يتسع منذ 2023 يتمثّل في استغلال تشريعات الأمن القومي لسحق المعارضة السلمية.
على الصعيد الداخلي، توحّدت المعارضة التونسية بمختلف أطيافها في التنديد بهذه الممارسات. فحتى شخصيات كانت على خلاف أيديولوجي فيما بينها جمعتها زنزانة واحدة تحت تهم التآمر. ويرى مراقبون أن حملة القمع طالت الإسلاميين واليساريين والليبراليين على حد سواء في سابقة هي الأولى من نوعها. وقد خرجت عدة احتجاجات في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة – رفعت شعار “لا خوف لا رعب، الشارع ملك الشعب” ويطالب المتظاهرون بإنهاء الحكم الفردي وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين واحترام الدستور. وعبّرت عائلات الموقوفين عن خشيتها على سلامة أبنائها وذويها في السجون.
في المحصلة، تستنزف السلطات التونسية موارد وجهود قطب مكافحة الإرهاب وتحيد به عن غايته الأساسية. فبدلاً من تركيز هذا الجهاز على تعقّب الشبكات الإرهابية الخطيرة وحماية أمن المواطنين، جعلته أداة لترهيب المعارضة وقمع الحريات. هذا التوظيف السياسي للقانون يهدد بتقويض المنجزات الديمقراطية لتونس ما بعد 2011، ويضع البلاد على مسار سلطوي يقلق الداخل والخارج معًا. ومن أجل صالح تونس وأمنها، تُجمع المنظمات الحقوقية على ضرورة إعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح: أي احترام سيادة القانون والفصل بين السلطات، وضمان أن تُخصص موارد مكافحة الإرهاب لمحاربة الإرهاب الفعلي وليس ملاحقة الأصوات الناقدة.
المصادر:
- هيومن رايتس ووتش – بيان صحفي: “تونس: موجة اعتقالات تستهدف منتقدين وشخصيات معارضة“ 24 فيفري 2023 hrw.orghrw.org.
- الأورومتوسطية للحقوق – تقرير: “حقوق الإنسان وسيادة القانون في تونس: التدهور مستمر“ 26 ماي 2023 euromedrights.orgeuromedrights.org.
- منظمة العفو الدولية – بيان: “تونس: إدانات جماعية في قضية التآمر 2 تعمّق أزمة دولة القانون“ 28 جويلية 2025 amnesty.orgamnesty.org.
- وكالة رويترز – تغطية إخبارية: “مظاهرات في تونس ضد سعيّد تصف البلاد بأنها سجن مفتوح“ 25 جويلية 2025 reuters.comreuters.com.
- فرانس برس (عبر VOA) – “صحفيون تونسيون يحتجون على قوانين الإرهاب المستخدمة ضد الإعلام“ 18 ماي 2023 voanews.comvoanews.com.
- الجزيرة نت – “الأمم المتحدة تدعو تونس لوقف اضطهاد المعارضين“ 18 فيفري 2025 aljazeera.netaljazeera.net .
- تمويل القطب القضائي لمكافحة الإرهاب:
- Programme d’appui à la réforme de la justice (PARJ)
- ATRAS – Projet de soutien à la lutte contre le terrorisme en Tunisie
- US Department of state : Support for Tunisia’s Democracy