Skip links

كيف تستنزف السلطات التونسية موارد قطب مكافحة الإرهاب وتستعمله لاستهداف المعارضين؟

في المحصلة، تستنزف السلطات التونسية موارد وجهود قطب مكافحة الإرهاب وتحيد به عن غايته الأساسية. فبدلاً من تركيز هذا الجهاز على تعقّب الشبكات الإرهابية الخطيرة وحماية أمن المواطنين، جعلته أداة لترهيب المعارضة وقمع الحريات. هذا التوظيف السياسي للقانون يهدد بتقويض المنجزات الديمقراطية لتونس ما بعد 2011، ويضع البلاد على مسار سلطوي يقلق الداخل والخارج معًا. ومن أجل صالح تونس وأمنها، تُجمع المنظمات الحقوقية على ضرورة إعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح: أي احترام سيادة القانون والفصل بين السلطات، وضمان أن تُخصص موارد مكافحة الإرهاب لمحاربة الإرهاب الفعلي وليس ملاحقة الأصوات الناقدة…

01 سبتمبر 2025 – منذ 25  جويلية 2021 تاريخ استحواذ الرئيس التونسي قيس سعيّد على السلطات التنفيذية والتشريعية – تشهد تونس تراجعًا حادًا في أوضاع حقوق الإنسان وسيادة القانون. فقد استخدمت السلطات التونسية على نحو متزايد قانون مكافحة الإرهاب وقضايا فضفاضة مثل تهمة  “التآمر على أمن الدولة” لاستهداف المعارضين والنشطاء والصحفيين المنتقدين للرئيس. ووُظّف القطب القضائي لمكافحة الإرهاب (وهو جهاز قضائي متخصص أُنشئ لملاحقة جرائم الإرهاب) كأداة لمحاكمة خصوم سعيّد السياسيين، في انحراف خطير عن هدف إنشائه الأصلي. وانتقدت منظمات دولية هذا التوجه، معتبرةً أنه يظهر استخدام الرئيس قيس سعيّد للقضاء لترسيخ حكم استبدادي وإسكات كل أشكال المعارضة السلمية. وبذلك، يتم استنزاف موارد الدولة المخصصة لمكافحة الإرهاب الحقيقي وتحويلها إلى وقود لحملة قمع سياسي غير مسبوقة في تونس.

قانون الإرهاب والقطب القضائي المتخصص:

صادقت تونس عام 2015  على قانون جديد وشامل لمكافحة الإرهاب وغسل الأموال، عوض قانون 2003، بهدف تعزيز قدرات الدولة في التصدي للجماعات الإرهابية خاصة بعد سلسلة هجمات دامية ذلك العام. يمنح هذا القانون السلطات صلاحيات واسعة، منها إمكانية الاحتجاز لفترة تصل إلى 15 يومًا دون توجيه تهمة رسمية مع منع الاتصال بمحامٍ خلال الـ 48 ساعة الأولى. وقد حذرت منظمات حقوقية حينها من أن تعريف الإرهاب الفضفاض وإجراءات التوقيف المطوّلة قد تقوض الضمانات الأساسية للمحتجزين.

ضمن جهود دعم تونس أمنيًا بعد الثورة، ساهم شركاء دوليون في تمويل وتدريب أجهزة مكافحة الإرهاب وإنشاء هياكل متخصصة. وأُطلق في تونس ما يُعرف بـ”القطب القضائي لمكافحة الإرهاب” ضمن المحكمة الابتدائية بالعاصمة، للنظر حصريًا في قضايا الإرهاب الخطيرة. وقد كان الهدف المعلن لهذه المساعدات والآليات هو اجتثاث الإرهاب والتطرف مع احترام دولة القانون – وليس ملاحقة المعارضين السياسيين وانتهاك الحريات التي جاءت الثورة التونسية لصونها.

السيطرة على القضاء بعد 25 جويلية 2021:

أدخل الرئيس قيس سعيّد تونس في منعطف حاسم ليلة 25 جويلية 2021 عندما جمّد عمل البرلمان وتولّى سلطات استثنائية خاصة بعد تعيين حكومة تعمل تحت تعليماته. منذ ذلك الحين، تعاظم تغوّل السلطة التنفيذية على القضاء بشكل أثار قلق المراقبين. ففي 12 فيفري 2022، أصدر سعيّد مرسومًا حلّ بموجبه المجلس الأعلى للقضاء المنتخب واستبدله بمجلس مؤقت معيّن، مما جعله فعليًا رئيسًا للسلطة القضائية. ثم في جوان 2022 أقال عشرات القضاة بشكل تعسّفي باتهامات فضفاضة مثل “تعطيل تحقيقات إرهابية” و”فساد أخلاقي” دون منحهم حق الدفاع أو اتباع الإجراءات التأديبية الواجبة. وعلى الرغم من حكم المحكمة الإدارية بإبطال غالبية تلك الإعفاءات وإعادة القضاة لمناصبهم، رفضت السلطة التنفيذية الامتثال.

الأخطر أن وزارة العدل استعملت القطب القضائي لمكافحة الإرهاب لفتح قضايا جزائية ضد 13 قاضيًا من الذين شملهم قرار الإعفاء وكسبوا طعونهم قضائيًا. هذا التطور غير المسبوق – أي محاكمة قضاة أمام هيئة مكافحة الإرهاب – اعتبرته المنظمات الحقوقية استغلالًا خطيرًا للإجراءات والقوانين بغرض ترهيب القضاة واستكمال هيمنة الرئيس على المنظومة القضائية. وبالتوازي، أحيل العديد من المدنيين إلى القضاء العسكري لمجرد انتقادهم لمسؤولين، في توسّع آخر لاختصاص المحاكم الاستثنائية على حساب القضاء المدني.

في هذا السياق المتوتر، مهّد الرئيس سعيّد الأرضية لملاحقة خصومه عبر القضاء. فبعد أن نصب نفسه رأسًا للنيابة العمومية وأقال وعزل عشرات القضاة، بدأ في وصم معارضيه علنًا بالإرهابيين والخونة. فخلال خطاب متلفز في 14 فيفري 2023 – قبيل موجة اعتقالات كبرى – أشار سعيّد إلى بعض الشخصيات (من دون تسميتهم) واصفًا إياهم بأنهم “إرهابيون” يتآمرون على الدولة. وحتى قبل أن تُوجّه لأي منهم تهمة رسمية، كان الرئيس يُعلن إدانتهم ويهدد بأنه “من يجرؤ على تبرئتهم فهو شريك لهم“. هذه التصريحات العلنية من رأس السلطة وضعت ضغطًا هائلًا على القضاة ووكلاء النيابة، وانتهكت مبدأ قرينة البراءة للمتهمين. وقد نبّهت هيومن رايتس ووتش إلى أن هذا جزء من سلسلة هجمات يشنها سعيّد على استقلالية القضاء ويقوّض الثقة بإدارة العدالة.

قانون الإرهاب كأداة لقمع المعارضة:

بعد إحكام القبضة على مؤسسات الدولة، شرع الرئيس سعيّد في تنفيذ حملة ايقافات استهدفت قادة الأحزاب المعارضة ونشطاء بارزين، تحت غطاء تهم تتعلق بأمن الدولة والإرهاب. كانت ذروة هذه الحملة في فيفري 2023 حين نفّذت قوات الأمن سلسلة مداهمات واعتقالات هي الأوسع منذ 2011. بين يومي 11  و15 فيفري 2023 وحدهما، اعتُقل ما لا يقل عن تسعة أشخاص، منهم خمسة معارضين بارزين (من توجهات مختلفة) وقاضيان ورجل أعمال ومدير محطة إذاعية. تبع ذلك موجة ثانية في 22 و24 فيفري شملت قيادات في جبهة الخلاص الوطني (ائتلاف معارض)، مثل اعتقال الناشطة شيماء عيسى والسياسي عصام الشابي واعتقال أستاذ القانون والناشط جوهر بن مبارك.

جميع هذه الاعتقالات وُجّهت في النهاية ضمن ما عُرف بـ قضية التآمر على أمن الدولة. أُحيل الموقوفون على القطب القضائي لمكافحة الإرهاب ووجهت إليهم تهم خطيرة تتعلق بـ “التآمر المقصود به الاعتداء على أمن الدولة الداخلي والخارجي” بموجب فصول من المجلة الجزائية وقانون الإرهاب. وقد أفضى ذلك إلى فتح تحقيق شامل جمع هؤلاء المعارضين في ملف واحد بزعم وجود مؤامرة منظمة. الجدير بالذكر أن محاميي الدفاع أكدوا أن الملفات خلت من أدلة جدّية تدعم هذه المزاعم الخطيرة، وإنما اعتمدت أساسًا على وشاية من مخبر مجهول وهواجس أمنية وتفسيرات لنقاشات سياسية علنية.

فيما يلي جدول يلخّص أبرز الشخصيات المعارضة والنشطاء الذين طالتهم حملات الاعتقال بتهمة التآمر وغيرها من القضايا السياسية، مع الإشارة إلى صفاتهم والتهم الموجهة إليهم ووضعهم الحالي:

الاسمالصفة / الوظيفةتاريخ الإيقافالتهم الموجهة
راشد الغنوشي

 

رئيس مجلس النواب السابق ورئيس حركة النهضة
17 أفريل 2023تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (بسبب تصريحات سياسية)
غازي الشواشي

 

وزير أسبق والأمين العام لحزب التيار الديمقراطي
13 فيفري 2023تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري)
خيام التركيناشط سياسي مستقل ومؤسس منتدى جسور وعضو سابق بحزب التكتل11 فيفري 2023تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري)
جوهر بن مباركأستاذ قانون دستوري وقيادي في جبهة الخلاص الوطني24 فيفري 2023تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري)
عصام الشابي

 

الأمين العام للحزب الجمهوري
22 فيفري 2023تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري)
شيماء عيسى

 

ناشطة سياسية وعضو جبهة الخلاص
22 فيفري 2023تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري)
عبد الحميد الجلاصيقيادي سابق بحركة النهضة (مستقيل منها)11 فيفري 2023تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري)
رضا بلحاج

 

محامٍ وعضو جبهة الخلاص الوطني؛ مدير ديوان رئاسي سابق
14 فيفري 2023تكوين وفاق ارهابي والتآمر على الدولة (قضية فيفري)
نور الدين البحيريوزير عدل أسبق وقيادي بحركة النهضة31 ديسمبر 2021 (وضع قيد الإقامة الجبرية)؛ اعتقل من جديد في 2022تهم مختلفة ثم أُدرج اسمه ضمن ملف التآمر
نور الدين بو طارصحفي ومدير إذاعة موزاييك إف إم المستقلة13 فيفري 2023تهم فساد مالي وتبييض أموال
أحمد صوابمحام وقاضي سابق21 أفريل 2025الانضمام إلى وفاق إرهابي والتآمر على أمن الدولة الداخلي

 

ملاحظة: الجدول أعلاه ليس شاملًا لجميع الحالات، لكنه يبرز أهم الأمثلة من مختلف الاتجاهات (إسلاميين وقوميين ويساريين وتقدميين) ممن وجدوا أنفسهم ملاحقين بموجب تهم ارهابية.

تكشف الشهادات والوثائق التي تسربت من ملفات القضايا عن ضعف الأسس الإثباتية وراء هذه الاتهامات الخطيرة. إذ ارتكزت تحقيقات قضية “التآمر” مثلا على إفادات مخبرين سريين زعموا وجود اجتماعات وتحركات لإسقاط النظام دون تقديم أدلة مادية ملموسة. حتى أن محاضر استجواب بعض المتهمين تطرقت إلى آرائهم العلنية وانتقاداتهم السياسية أو مضامين برامج إذاعية، وتم اعتبارها قرائن على التآمر. وقد ندّدت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وغيرها بما اعتبرته “قضايا ملفقة مبنية على تهم فضفاضة بهدف تصفية المعارضين”.

بالإضافة إلى السياسيين، طالت الملاحقات المسيسة تحت غطاء الإرهاب طيفًا من النشطاء والصحفيين وحتى العاملين بالمجال الإنساني. فمثلاً في ماي 2023، تجمع عشرات الصحفيين في تونس هاتفين “نحن صحفيون لا إرهابيون” إثر تأكيد محكمة استئناف لحكم بسجن الصحفي خليفة القاسمي 5 سنوات بموجب قانون الإرهاب. كان قد جُرم القاسمي بعد نشره خبرًا حول تفكيك خلية إرهابية ورفض الكشف عن مصدره الأمني، فاعتُبر ذلك إفشاءً لمعلومات أمنية. واعتبرت نقابة الصحفيين هذه السابقة تهديدًا خطيرًا لحرية الصحافة، مؤكدةً وجود توجه سياسي لقمع الإعلام عبر توظيف قوانين الإرهاب وقوانين أخرى قمعية.

كما شهد شهر نوفمبر 2024 حادثة أثارت استياءً واسعًا في الأوساط الحقوقية، إذ أُحيل نشطاء في مجال دعم المهاجرين على القطب القضائي لمكافحة الإرهاب لأول مرة. فقد أوقفت السلطات خمسة أعضاء في جمعية تنشط بجنوب تونس لمساعدة المهاجرين غير النظاميين، من بينهم رئيس الجمعية عبد الله السعيد (تونسي) وأحالتهم إلى التحقيق بتهمة “تكوين وفاق لاستقبال وتوطين المهاجرين بدعم خارجي” ووصف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية هذه الإحالة بأنها مؤشر خطير ورسالة تخويف لمنظمات المجتمع المدني العاملة بالمجال الإنساني.  فبدلاً من حصر دور جهاز مكافحة الإرهاب في التصدي للتطرف العنيف، بات يستعمل لملاحقة من يقدمون مساعدات إنسانية أو يمارسون حقهم في التعبير والتنظيم.

محاكمات جائرة وانتهاكات للعدالة:

لم تقتصر تجاوزات السلطات على الايقافات التعسفية، بل امتدت إلى انتهاك أبسط ضمانات المحاكمة العادلة أثناء النظر في هذه القضايا. فقد أُبقي معظم الموقوفين رهن الحبس الاحتياطي المطوّل لمدد تجاوزت 14 شهرًا (الحد القانوني) دون إفراج مؤقت، وأحيلوا إلى جلسات محاكمة عن بُعد عبر الشاشات التلفزيونية من السجن. ففي مارس وأفريل 2025، قررت المحكمة إجراء محاكمة مجموعة متهمي قضية التآمر (أكثر من 40 شخصًا) بجلسات عبر الفيديو دون إحضارهم إلى قاعة المحكمة، بدعوى وجود “تهديد أمني حقيقي”.  واحتجّ المحامون وعائلات المتهمين بشدة على هذا الإجراء الاستثنائي، ورأى فيه المعتقلون تعديًا على حقهم في المثول العلني. ورفض جميع المعتقلين آنذاك المشاركة في المحاكمة عن بعد وأعلنوا إضراب جوع جماعي خلال أفريل 2025 كحركة احتجاجية. ورغم ذلك مضت المحكمة في عقد الجلسات وإصدار الأحكام دونهم، متجاهلةً طلبات التأجيل وإحضارهم.

كذلك، مُنع الصحفيون والمراقبون المستقلون في عدة مناسبات من دخول قاعة المحكمة أثناء جلسات قضايا الإرهاب ذات الصبغة السياسية. وأدانت نقابة الصحفيين التونسيين (SNJT) تلك التضييقات واعتبرتها دليلاً على غياب الشفافية في هذه المحاكمات. كما اشتكى المحامون من صعوبة الاطلاع على ملفات القضايا أحيانًا، ومن عدم تمكينهم من التواصل الكافي مع موكليهم بسبب ظروف الاحتجاز المشددة.

أما الأحكام الصادرة عن الدوائر الجنائية المختصة بالنظر في قضايا الإرهاب فقد كانت بالغة القسوة وصدمت الرأي العام. ففي فجر 19 أفريل 2025 أصدرت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية في تونس أحكامًا جماعية بالسجن على 40  متهما في ما عُرف إعلاميًا بقضية  “التآمر الأولىتراوحت الأحكام بين 13 سنة و66 سنة. سجنًا. وقد وصفت منظمة العفو الدولية المحاكمة بأنها مهزلة للعدالة نظراً لما شابها من خروقات إجرائية وغياب الحد الأدنى من حقوق الدفاع. وأكدت المنظمة أن المتهمين حُوكموا وأدينوا فقط بسبب ممارستهم السلمية لحقوقهم في التعبير والتنظيم، وندّدت بالاعتماد على تُهم ملفقة وغير مسندة بأي أدلة حقيقية. ودعت العفو الدولية السلطاتِ إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع من سُجنوا لمجرد نشاطهم السياسي السلمي أو انتقادهم للرئيس.

بعد أشهر من ذلك، وفي 8  جويلية 2025 اختُتمت محاكمة ثانية جماعية عُرفت باسم “قضية التآمر 2” وشملت 21 متهمًا آخر من رموز المعارضة والمسؤولين السابقين. أصدرت المحكمة الابتدائية بتونس أحكامًا جديدة بالسجن بين 12 و35 سنة على هؤلاء المتهمين. وحكمت على راشد الغنوشي – الذي قاطع المحاكمة رافضًا المشاركة عبر الفيديو – بالسجن 14 عامًا (غيابيًا، وعلى مديرة الديوان الرئاسي السابقة نادية عكاشة (خارج البلاد) بـ 35 عامًا، كما أدانت وزير الخارجية الأسبق رفيق عبد السلام وضباط أمنيين سابقين بأحكام قاسية (بلغت 35 عامًا للبعض) وقد علّقت منظمة العفو بأن هذه الإدانات الجماعية الجديدة دليل إضافي على أزمة دولة القانون في تونس، إذ تستمر السلطات في توظيف تهم الإرهاب المبهمة لقمع المعارضة السلمية وتقويض استقلال القضاء.

من جانبها، وثّقت هيومن رايتس ووتش أيضًا ما وصفته بـ”الحملة الأكثر ضراوة على المعارضة منذ 2011″. وأشارت المنظمة إلى استغلال الرئيس سعيّد سلطات النيابة وتدخّله في القضاء لاعتقال منتقديه واحدًا تلو الآخر، ووصمهم بالإرهاب دون أدلة. وقالت مديرة المنظمة في تونس سلسبيل شلالي “بعد أن نصّب الرئيس نفسه مسؤولاً عن النيابة وأقال القضاة يمينًا ويسارًا، بات الآن يلاحق منتقديه بمنهج إقصائي ويصفهم بالإرهابيين دون أدلة موثوقة” وأبرزت المنظمة غياب التهم المحددة أو الأدلة القاطعة ضد العديد من الموقوفين، ومنهم قادة أحزاب وصحفيون وقضاة، معتبرةً أن ما جرى هو اعتقالات بدوافع سياسية واضحة.

استنزاف موارد مكافحة الإرهاب لأغراض سياسية:

إن توظيف جهاز مكافحة الإرهاب في غير محله لا يشكّل خرقًا لحقوق المواطنين فحسب، بل ينعكس سلبًا أيضًا على فاعلية الدولة في مواجهة الإرهاب الحقيقي ويبدّد الموارد المحدودة المخصّصة للأمن. فمنذ 2011، تلقت تونس دعمًا ماليًا وفنيًا كبيرًا لتعزيز قدراتها ضد التنظيمات الإرهابية التي استهدفت أمنها ومواطنيها. وقد اُستثمرت مبالغ طائلة في تدريب وحدات الأمن الخاصة وتجهيز المحاكم وبناء أجهزة استخباراتية وعسكرية فعالة. وكان يُفترض أن تُصرف هذه الموارد المالية والبشرية لتعزيز أمن الدولة ومكافحة التطرف العنيف وحماية التجربة الديمقراطية الفتية. لكن واقع الأمر اليوم أن قسمًا كبيرًا من جهد الأجهزة الأمنية والقضائية يُستنزف في ملاحقة صحفي يكتب مقالًا ناقدًا أو سياسي يُدلي بتصريح معارض. وبدل أن يُعزَّز القطب الأمني والقضائي لمكافحة الإرهاب بموارد إضافية لرصد الخلايا الإرهابية النائمة ومتابعة تحركاتها، نجده مُنشغلًا بعقد محاكمات ماراطونية للمعارضين وإعداد لوائح اتهام فضفاضة ضد ناشطي المجتمع المدني.

هذا الانحراف يمثّل خطرًا أمنيًا في حد ذاته. فوفق خبراء مكافحة الإرهاب، تؤدي ممارسة القمع والتضييق على الحريات إلى خلق مناخ من الاحتقان والغضب الشعبي، مما قد يغذي التطرف بدل أن يطفئه. كما أن تحويل وجهة أجهزة الأمن عن مهامها الأصلية يترك ثغرات قد تستغلها الخلايا الإرهابية الحقيقية. وقد حذرت مجموعة الأزمات الدولية سابقًا من أن التركيز على إخراس المعارضة السياسية يأتي على حساب التركيز المطلوب لمواجهة تهديدات كتنظيم “داعش” العابر للحدود. وفي ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة بالبلاد، ينشغل النظام بمطاردة منتقديه بدل معالجة أسباب التوتر التي قد يستغلها المتطرفون لتجنيد اليائسين.

إضافة إلى ذلك، فإن مصداقية تونس الدولية على المحكّ. فالدول والمؤسسات التي دعمت تونس أمنيًا منذ الثورة عبّرت عن صدمتها من هذا المسار. وقد دعا الاتحاد الأوروبي وشركاء آخرون السلطاتِ مرارًا إلى احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان كشرط لاستمرار التعاون والدعم. حتى أن شبكة أوروميد للحقوق طالبت في ماي 2023 بربط أي تمويل أو دعم أوروبي لتونس بالتزامها بمبادئ حقوق الإنسان، بما في ذلك الدعم اللوجستي والمالي الموجّه لقطاع الأمن والقضاء. واعتبرت الشبكة أن ما يحدث هو “تخلي تام عن دولة القانون” في تونس، مما يستوجب موقفًا دوليًا حازمًا. ومن شأن استمرار السلطات التونسية في تسخير قانون الإرهاب ضد النشطاء أن يعرّض البلاد لعزلة دولية وتجميد لمساعدات هي في أمسّ الحاجة إليها، في وقت يتفاوض فيه النظام أيضًا على دعم مالي لموازنة الدولة المتهاوية.

على صعيد آخر، تعاني مؤسسات الدولة التونسية اليوم من التسييس والاستنزاف؛ فالقطب القضائي المتخصص الذي بُنِيَ بدعم دولي لمكافحة الإرهاب باتت سمعته مرتبطة بقضايا مسيسة تفتقر لأدلة جدية. وتزعزعت ثقة المواطنين في هذا الجهاز، حيث يرى كثيرون أنه تحول إلى مجرد أداة بيد السلطة التنفيذية لتصفية الحسابات السياسية. وهذا يضرّ بهيبة القضاء ويقوّض كل ما أُنجز من إصلاحات في القطاع الأمني بعد الثورة. لقد كان تعزيز استقلال القضاء وحوكمة القطاع الأمني من أهم مكاسب 2011، لكن تحويل وجهة المؤسسات عن مهامها الدستورية أرجع البلاد خطوات إلى الوراء.

تمويل القطب القضائي لمكافحة الإرهاب:

تأسس القطب القضائي لمكافحة الإرهاب في تونس عام 2015 كهيكل قضائي متخصص للنظر في القضايا ذات الصبغة الإرهابية.

وحظي القطب القضائي لمكافحة الإرهاب (ضمن المحكمة الابتدائية بتونس) بدعم مالي ولوجستي كبير من شركاء دوليين. فقد موَّل الاتحاد الأوروبي برامج متعددة لتعزيز قدرات القضاء والأمن في مكافحة الإرهاب. على سبيل المثال، أطلق برنامج إصلاح القضاء PARJ  عام 2012 بميزانية 25 مليون يورو وأُضيفت إليه 15 مليون يورو عام 2015 ليصل إجمالي الدعم الأوروبي لقطاع العدالة إلى 40 مليون يورو على شكل هبات. ورغم أن هذا البرنامج شمولي لإصلاح العدالة، إلا أنه أفاد بصورة غير مباشرة المؤسسات المكلفة بقضايا الإرهاب عبر تحديث البنية التحتية للمحاكم وتجهيزها رقمياً وتدريب القضاة. بالإضافة إلى ذلك، موَّل الاتحاد الأوروبي مشروعًا متخصصًا لمكافحة الإرهاب حمل اسم “ATRAS” ( امتد من 2019 إلى 2022) بقيمة 2.4 مليون يورو، وتركز على تعزيز قدرات ست مؤسسات تونسية من بينها القطب القضائي لمكافحة الإرهاب نفسه. كما خصصت أدوات التمويل الأوروبية الأحدث مبلغ 6 ملايين يورو لعامي 2023–2024 لدعم برامج مكافحة الإرهاب في تونس (مثل المشاركة في منصّة عالمية لمكافحة تمويل الإرهاب ومنع التطرف).

من جهتها قدّمت الولايات المتحدة دعمًا ملحوظًا لتونس في مجال مكافحة الإرهاب شمل جوانب أمنية وقضائية. فمنذ 2011 تجاوز مجموع المساعدات الأمنية الأمريكية 250 مليون دولار لدعم تونس في مواجهة التهديدات الإرهابية الداخلية والإقليمية. وُجِّه جزء من هذا الدعم لتحسين قدرات القضاء على معالجة قضايا الإرهاب. على سبيل المثال، موّلت وزارة الخارجية الأمريكية عبر مكتب مكافحة الإرهاب مشاريع لتأمين المحاكم المختصة بقضايا الإرهاب في تونس، حيث نُفِّذت أعمال تطوير للبنية التحتية الأمنية في مقرات القطب القضائي بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع ( UNOPS). شملت هذه الأعمال تجهيزات أمنية متخصصة مثل تجديد زنزانات المحتجزين وإنشاء ممرات آمنة لنقلهم وتعزيز أنظمة الدخول إلى مباني المحكمة. وإلى جانب ذلك، وفر برنامج المساعدة الفنية التابع لوزارة العدل الأمريكية (ICITAP) تدريبات واستشارات لتحسين تأمين المحاكم بالتنسيق مع وزارتي العدل والداخلية التونسيتين. أيضًا استفاد قضاة ووكلاء القطب من دورات تدريبية عديدة نظمتها جهات دولية لرفع كفاءتهم في تطبيق قانون مكافحة الإرهاب مع احترام معايير حقوق الإنسان. وقد أشار تقرير للأمم المتحدة عام 2017 إلى أن السلطات التونسية أبدت التزامًا بتعزيز قدرات القطب القضائي لمكافحة الإرهاب رغم ما كان يعانيه من نقص الموارد في بداياته.

الميزانية السنوية والرواتب:

  • يُموَّل القطب القضائي لمكافحة الإرهاب من الميزانية العامة لوزارة العدل التونسية، ولا تُنشر عادة أرقام مفصّلة عن مخصّصاته السنوية بشكل مستقل. بالإضافة إلى الرواتب الأساسية للقضاة (التي تُحدد وفق السلم الوظيفي العام للقضاء التونسي)، اتخذت الحكومة إجراءات لضمان حوافز خاصة للعاملين فيه. ففي عام 2017، أقرت وزارة العدل منحة خصوصية شهرية قدرها “300 دينار تونسي” للقضاة الملحقين بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب (وأيضًا القطب الاقتصادي والمالي) كما مُنِح قضاة القطب امتيازات عينية إضافية (مثل وسائل نقل وظيفية محسّنة) لتحفيزهم. أما بقية الموظفين والأعوان الإداريين فيعملون ضمن هيكلة وزارة العدل المعتادة، وتمول نفقاتهم التشغيلية من ميزانية الدولة. بالإضافة إلى هذا، تم تدشين مقر مستقل للقطب القضائي نهاية عام 2014 بتمويل حكومي، بهدف توفير بنية تحتية ملائمة وآمنة للنظر في قضايا الإرهاب الحساسة.

الأمم المتحدة وشركاء دوليون آخرون: قدمت الأمم المتحدة عبر هيئاتها المختصة – مثل مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) – برامج لبناء قدرات القضاة ووكلاء النيابة في قضايا الإرهاب. كما ساهم المعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون (IIJ)  بدعم من حكومات غربية في تنظيم دورات تدريبية متقدمة للقضاة التونسيين حول ضمانات المحاكمة العادلة في قضايا الإرهاب وحماية حقوق الإنسان أثناء إجراءات مكافحة الإرهاب. وشملت أوجه الدعم الأممي أيضًا تحديث أساليب التحقيق والتقاضي وتبادل الخبرات الدولية، وذلك في إطار تنفيذ الإستراتيجيات الوطنية لمكافحة التطرف العنيف. ورغم أن هذا الدعم الفني لا يُقاس بالأرقام المالية ذاتها، إلا أنه أسهم في صياغة أدلة إجراءات وممارسات فضلى عززت معارف القضاء التونسي في هذا المجال.

في المحصلة، تكشف المعطيات أن عشرات ملايين الدولارات واليورو قد وُجّهت لتحسين قطاع العدالة ومكافحة الإرهاب في تونس منذ 2011 عبر دعم دولي وبرامج وطنية. لكن أثر هذه التمويلات والدعم اصطدم بالواقع السياسي.

 

دعوات لإنهاء الملاحقات واستعادة دولة القانون:

أمام هذه التطورات الخطيرة، تتعالى أصوات محلية ودولية مطالبةً السلطات التونسية بـ الكف عن استغلال قوانين الإرهاب في غير موضعها ووقف حملة القمع المستمرة منذ 2021. في فيفري 2025، أصدر فولكر تورك المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة بيانًا دعا فيه الحكومة التونسية إلى إنهاء جميع أشكال اضطهاد المعارضين السياسيين واحترام الحق في حرية الرأي والتعبير. وطالب البيان بالإفراج الفوري – لأسباب إنسانية – عن المحتجزين من كبار السن والمرضى. كما حثّت مفوضية الأمم المتحدة على مراجعة التشريعات الجزائية في تونس وضمان اتساقها مع المعايير الدولية، نظرًا لأن عشرات النشطاء والصحفيين والسياسيين يواجهون اتهامات فضفاضة وغامضة فقط نتيجة ممارستهم حقوقهم.

بدورها، أكدت هيومن رايتس ووتش أن على الرئيس سعيّد التوقف عن ملاحقة منتقديه بنصوص الإرهاب والكف عن خطاب التخوين الذي يؤجج الاستقطاب. وشدّدت على ضرورة إلغاء الأحكام المسيسة الصادرة وإطلاق سراح من سُجنوا تعسفيًا، فضلًا عن إعادة القضاة المفصولين وإنهاء تدخل السلطة التنفيذية في القضاء. كما دعت منظمة العفو الدولية في بيانات متتالية إلى إطلاق سراح جميع من اعتُقلوا لمجرد ممارسة حقهم في التعبير أو الانتماء السياسي فورًا. واعتبرت أن ما يحدث في تونس اليوم يمثل انتهاكًا صارخًا لالتزاماتها الحقوقية الدولية”، محذرةً من نمط مقلق يتسع منذ 2023 يتمثّل في استغلال تشريعات الأمن القومي لسحق المعارضة السلمية.

على الصعيد الداخلي، توحّدت المعارضة التونسية بمختلف أطيافها في التنديد بهذه الممارسات. فحتى شخصيات كانت على خلاف أيديولوجي فيما بينها جمعتها زنزانة واحدة تحت تهم التآمر. ويرى مراقبون أن حملة القمع طالت الإسلاميين واليساريين والليبراليين على حد سواء في سابقة هي الأولى من نوعها. وقد خرجت عدة احتجاجات في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة – رفعت شعار “لا خوف لا رعب، الشارع ملك الشعب” ويطالب المتظاهرون بإنهاء الحكم الفردي وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين واحترام الدستور. وعبّرت عائلات الموقوفين عن خشيتها على سلامة أبنائها وذويها في السجون.

في المحصلة، تستنزف السلطات التونسية موارد وجهود قطب مكافحة الإرهاب وتحيد به عن غايته الأساسية. فبدلاً من تركيز هذا الجهاز على تعقّب الشبكات الإرهابية الخطيرة وحماية أمن المواطنين، جعلته أداة لترهيب المعارضة وقمع الحريات. هذا التوظيف السياسي للقانون يهدد بتقويض المنجزات الديمقراطية لتونس ما بعد 2011، ويضع البلاد على مسار سلطوي يقلق الداخل والخارج معًا. ومن أجل صالح تونس وأمنها، تُجمع المنظمات الحقوقية على ضرورة إعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح: أي احترام سيادة القانون والفصل بين السلطات، وضمان أن تُخصص موارد مكافحة الإرهاب لمحاربة الإرهاب الفعلي وليس ملاحقة الأصوات الناقدة.

المصادر:

 

 

مقدمة: السياق السياسي والعام

شهدت تونس تحوّلًا سياسيًا جذريًا بعد إعلان الرئيس قيس سعيّد عن الإجراءات الاستثنائية في 25 جويلية 2021. فقد قام سعيّد بتجميد عمل البرلمان وحل الحكومة وتولّي السلطات التنفيذية والتشريعية، مما أثار مخاوف بشأن تركيز جميع الصلاحيات بيده وتقويض المكتسبات الديمقراطية. في ظل هذا الوضع السياسي الجديد، تصاعدت حملات قمع استهدفت المعارضين السياسيين والنشطاء والصحفيين، وأصبحت مناخًا عامًا يتسم بالتضييق على المجتمع المدني والحقوق والحريات. هذه الأجواء مهدت الطريق أمام استهداف فئة جديدة من النشطاء خلال 2023 وما بعدها: نشطاء ومنظمات الدفاع عن المهاجرين واللاجئين.

بالتوازي مع ذلك، تبنّى الخطاب الرسمي نبرة عدائية وغير مسبوقة تُجاه المهاجرين القادمين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء. ففي خطاب شهير ألقاه الرئيس قيس سعيّد في فيفري/فبراير 2023 خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي، تحدث عن “مؤامرة لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس” عبر موجات من المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا، ملمّحًا إلى ما يُعرف بـنظرية “الاستبدال الديمغرافي” العنصرية. ووصف سعيّد تدفق المهاجرين بأنه تهديد يجعل تونس “بلدًا أفريقيًا فقط دون انتماء عربي وإسلامي”، وأمر قوات الأمن باتخاذ إجراءات عاجلة لوقف تدفق «جحافل المهاجرين غير الشرعيين». وقد أدان الاتحاد الأفريقي هذه التصريحات واعتبرها صادمة وتنطوي على عنصرية واضحة. رغم محاولة سعيّد نفي الصبغة العنصرية عن خطابه لاحقًا، فإنه واصل الإيحاء بوجود مؤامرة خارجية تستهدف الهوية التونسية من خلال المهاجرين.

أسهم هذا الخطاب الرسمي الحاد في تأجيج المشاعر المعادية للأجانب داخل المجتمع. فخلال الأشهر اللاحقة لخطاب سعيّد، أبلغ العديد من المهاجرين والأفارقة المقيمين في تونس – بمن فيهم طلبة وعائلات ولاجئون وحتى تونسيون من أصول أفريقية – عن تعرضهم لاعتداءات لفظية وجسدية. كثيرون فقدوا مساكنهم ووظائفهم بين ليلة وضحاها تحت ضغط خطاب الكراهية. وأصبحت حملات التشويه على شبكات التواصل الاجتماعي تستهدف هذه الفئات بوصفها مصدرًا للجريمة والأمراض، كما طالت الحملة الجمعيات التونسية التي تساعدهم باتهامها بـ“تشجيع التوطين السري” أو العمالة للخارج.

على صعيد متصل، تفاقمت الانتهاكات الرسمية ضد المهاجرين واللاجئين. وثّقت منظمات حقوقية حالات عديدة قامت فيها قوات الأمن التونسية بمداهمة أماكن سكن المهاجرين واعتقال المئات منهم تعسفيًا. كما سُجّل قيام السلطات بترحيل جماعي لمهاجرين غير نظاميين عبر دفعهم قسرًا إلى الحدود الصحراوية مع ليبيا أو الجزائر وتركهم في ظروف خطرة دون ماء أو غذاء. في جويلية /يوليو 2023، مثلًا، وبعد أحداث عنف بين سكان محليين ومهاجرين في مدينة صفاقس، قامت السلطات بترحيل مئات المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى مناطق نائية عند الحدود الليبية. وقد أعلن الهلال الأحمر الليبي في حينها إنقاذ عشرات الأشخاص تُركوا في الصحراء التونسية، في حين وردت تقارير عن وفاة عدد من المهاجرين عطشًا أثناء محاولتهم النجاة من تلك المنطقة الملتهبة. هذه الممارسات وصفتها المنظمات الدولية بأنها ترتقي إلى المعاملة القاسية واللاإنسانية، واعتبرتها دليلًا إضافيًا على أن تونس لم تعد مكانًا آمنًا لطالبي اللجوء والمهاجرين.

ورغم هذا الواقع المتأزم، سعى الاتحاد الأوروبي وشريكه الأساسي إيطاليا إلى عقد اتفاقيات مع السلطات التونسية لكبح الهجرة عبر البحر المتوسط. فقد تمّ توقيع مذكرة تفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي في جويلية/يوليو 2023 بحضور الرئيس سعيّد ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين. وُعدت تونس في إطار هذه الصفقة بحزمة مساعدات مالية كبيرة (تصل إلى نحو مليار يورو) لدعم اقتصادها المتعثر ومراقبة حدودها. عُرفت هذه المبادرة إعلاميًا باسم “خطة ماتّي” نسبةً إلى نهج إيطاليا الجديد في التعاون مع دول شمال أفريقيا. وقد اعتبرتها السلطات التونسية انتصارًا دبلوماسيًا وأكدت التزامها بالتعاون في منع الإبحار غير النظامي من سواحلها. بالمقابل، انتقدت منظمات حقوقية هذه الاتفاقية بشدة، معتبرةً أنها تركز على البعد الأمني للهجرة وتغضّ الطرف عن الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها المهاجرون في تونس. ولاحظ مراقبون تناقضًا واضحًا: فمن جهة تفاخر الخطاب الرسمي في المحافل الدولية بالتعاون مع المجتمع المدني في رعاية المهاجرين، ومن جهة أخرى كانت السلطات تشيطن نفس المنظمات المحلية وتتهمها زورًا بتلفيق معلومات عن أوضاع المهاجرين لتشويه صورة تونس.

استغلّت السلطة هذا الخطاب التخويفي لـتأليب الرأي العام ضد الفئات المهاجرة وضد الجمعيات التونسية والدولية التي تقدم لهم العون. ففي كلمته خلال الإعلان عن مذكرة التفاهم مع الأوروبيين، هاجم الرئيس سعيّد صراحةً المنظمات الإنسانية واتهمها بنشر “معطيات كاذبة” حول معاملة تونس للمهاجرين بدلًا من تركيز جهودها على التصدي لشبكات الإتجار بالبشر. كما دأبت صفحات إعلامية قريبة من السلطة على وصم الناشطين في ملف الهجرة بأنهم عملاء يتلقون تمويلات خارجية لخدمة “أجندات مشبوهة”. هذا التصوير ساهم في خلق مناخ عام يقبل أو يغض النظر عن قمع النشطاء، بحجة حماية السيادة الوطنية أو الأمن القومي. وبذلك، أصبح العمل في مجال دعم المهاجرين واللاجئين في تونس محفوفًا بالمخاطر في ظل اتهامات التخوين والشيطنة.

ظاهرة الهجرة وتحول تونس إلى "بلد احتجاز"

لفهم السياق الكامل، من الضروري التطرق بإيجاز إلى ظاهرة الهجرة في المنطقة ودور تونس المتغير فيها. تُعتبر تونس تقليديًا بلد عبور للمهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء أو من مناطق الأزمات كسوريا والسودان، والذين يهدف معظمهم إلى الوصول لأوروبا عبر البحر. تعود أسباب مغادرة هؤلاء لأوطانهم إلى عوامل متعددة تشمل النزاعات المسلحة (مثل الحرب الأهلية في السودان)، أو الاضطهاد وانتهاك الحقوق، أو انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في دولهم. يجد هؤلاء الأفراد في تونس محطة مؤقتة للبحث عن عمل وتأمين تكاليف رحلة العبور الخطرة بالبحر إلى السواحل الأوروبية، وخاصة نحو إيطاليا التي تبعد أقل من 150 كم عن السواحل التونسية عند أقرب نقطة.

خلال السنوات الأخيرة، وخصوصًا منذ تصاعد الاضطرابات في ليبيا المجاورة، تزايد عدد المهاجرين واللاجئين الوافدين إلى تونس. وبحسب بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، يوجد في تونس حاليًا ما يزيد عن 10 آلاف شخص بين لاجئ وطالب لجوء مسجّلين رسميًا (حتى نهاية مارس 2025)، معظمهم ينحدرون من دول تشهد نزاعات كسوريا والسودان والصومال وغيرها. هذا الرقم لا يشمل بالطبع جميع المهاجرين غير النظاميين الذين قد لا يسعون لتقديم طلب لجوء أو غير مسجّلين لدى الجهات الأممية. وقد قدّرت منظمات محلية أن إجمالي المهاجرين من جنسيات أفريقية في تونس – سواء كانوا في وضعية نظامية أو غير نظامية – بلغ عشرات الآلاف في السنوات الأخيرة. هؤلاء ينتشرون خصوصًا في المدن الكبرى مثل تونس العاصمة وصفاقس، وبعضهم انخرط في سوق العمل غير الرسمي أو الأعمال الموسمية.

لكن الصورة تغيّرت بشكل دراماتيكي منذ بداية 2023. فمع حملة الخطاب العنصري والتحريض الرسمي ضد مهاجري جنوب الصحراء، تحولت تونس من بلد عبور إلى مكان احتجاز وطرد بالنسبة للكثير منهم. لم يعد المهاجرون يشعرون بالأمان حتى للإقامة المؤقتة؛ إذ باتوا عرضة للملاحقة الأمنية والاعتقالات التعسفية من جهة، وللاعتداءات العنصرية من بعض الأفراد من جهة أخرى. نتيجة لذلك، اضطر عدد كبير منهم لمغادرة تونس بشكل عاجل خوفًا على سلامتهم. وتذكر المنظمة الدولية للهجرة (IOM) أن تونس شهدت موجة من برامج “العودة الطوعية” للمهاجرين خلال عامي 2023 و2024، حيث تم تسجيل آلاف طلبات العودة إلى البلدان الأصلية بترتيب ودعم من المنظمة. وقد أعلنت السلطات التونسية نفسها أن حوالي 7250 مهاجرًا من جنسيات أفريقية عادوا طوعًا إلى بلدانهم خلال سنة 2024 وحدها، في مؤشر واضح على نزوح جماعي تحت ضغط الظروف القاسية.

أما المهاجرون واللاجئون الذين بقوا في تونس، فقد باتوا يواجهون وضعًا إنسانيًا صعبًا. فبعد حملة الاعتقالات ضد كوادر الجمعيات المعنية بالهجرة (التي سنفصلها في القسم اللاحق)، تعطلت إلى حد كبير شبكات الدعم والرعاية التي كانت توفرها هذه المنظمات لهؤلاء المهاجرين. على سبيل المثال، كان المجلس التونسي للاجئين الجهة المحلية الشريكة للمفوضية الأممية في تسجيل طالبي اللجوء وإصدار بطاقات قانونية مؤقتة لهم. لكن إيقاف مسؤولي المجلس وإغلاق مقره أدى إلى تعطيل عملية التسجيل وتجديد البطاقات. وبحسب تقارير ميدانية، أصبح كثير من اللاجئين عالقين في وضعية غير قانونية قسرًا لانتهاء صلاحية أوراقهم وعدم تمكنهم من تجديدها. هذا الوضع جعلهم في مرمى الاعتقال أو الترحيل، وحرمهم في الوقت نفسه من الخدمات الأساسية. وينسحب الأمر نفسه على الخدمات الاجتماعية والإغاثية (كالإيواء والطعام والرعاية الطبية) التي تقلّصت بشكل حاد مع شلل الجمعيات المدنية، مما فاقم الهشاشة التي يعانيها المهاجرون واللاجئون في تونس.

باختصار، تحوّلت تونس خلال فترة وجيزة من بلد يُعبره المهاجرون بحثًا عن الأمان إلى فخ ومأزق إنساني لكثير منهم. هذا التحول جاء نتيجة تضافر الخطاب الرسمي العدائي مع الإجراءات القمعية على الأرض. وفي ظل إصرار السلطات على تبني المقاربة الأمنية البحتة إرضاءً لضغوط الشركاء الأوروبيين، يُخشى أن يستمر تدهور أوضاع هذه الفئة المهمشة التي وجدت نفسها ضحّية التجاذبات السياسية بين تونس وأوروبا.

توثيق الانتهاكات بحق الجمعيات والنشطاء (2023 – 2025)

في خضم هذا المناخ المشحون، شنت السلطات التونسية منذ مطلع 2023 حملة منظمة لاستهداف الجمعيات والمنظمات والأفراد الذين يعملون في دعم المهاجرين واللاجئين أو الدفاع عن حقوقهم. وتركزت هذه الحملة خصوصًا خلال الفترة بين ماي/أيار وديسمبر 2024، حيث تم إيقاف عدد كبير من الناشطين واقتيادهم إلى السجون بتهم جنائية خطيرة مثل تبييض الأموال والتآمر، وغيرها من التهم الملفّقة التي تهدف إلى تجريم عملهم الإنساني. فيما يلي أبرز المنظمات المدنية والشخصيات التي تعرضت للملاحقة أو المضايقات، مع توضيح طبيعة عملها والتهم الموجهة إليها:

  • جمعية منامتي (Mnemty): هي جمعية تونسية بارزة أسستها الناشطة سعدية مصباح منذ 2013، وكرست نشاطها لمناهضة العنصرية وتعزيز التعايش وحقوق الأقليات في تونس. لعبت سعدية مصباح دورًا محوريًا في التحسيس بمخاطر التمييز العنصري، وساهمت في سنّ القانون التونسي لمكافحة العنصرية عام 2018. مع تصاعد خطاب الكراهية ضد الأفارقة في 2023، برز صوت سعدية مصباح في انتقاد تلك الموجة والتحذير من تداعياتها. ولكن بدلاً من الاستماع إلى تحذيراتها، أصبحت هي نفسها هدفًا للسلطات. ففي 6 ماي 2024 داهمت قوات الأمن منزل سعدية ومقر جمعية منامتي، وصادرت الحواسيب والملفات، ثم أوقفت سعدية مصباح ومدير المشاريع بالجمعية. وُجّهت إليها تهم جنائية بالفساد المالي وتبييض الأموال بدعوى وجود تجاوزات في تمويل الجمعية، وتم إيداعها السجن الإحتياطي منذ ذلك التاريخ. تزامن ذلك مع حملة تشهير واسعة ضدها على شبكات التواصل، حيث تلقت تهديدات ورسائل كراهية بسبب مزاعم أن جمعيتها “تدعم المهاجرين غير الشرعيين”. ورغم عدم ثبوت أي اختلاس أو تجاوز مالي (وأحالت الجهات القضائية ملفها من القطب المالي إلى المحكمة العادية لعدم الاختصاص)، لا تزال سعدية مصباح رهن الحبس الاحتياطي. وقد مُدد توقيفها عدة مرات (آخرها في مارس 2025 لمدة أربعة أشهر إضافية)، مما يعني أنها أمضت ما يزيد عن السنة خلف القضبان دون محاكمة. وتواجه سعدية نظريًا عقوبات بالسجن لسنوات طويلة وغرامات باهظة إذا ما أدينت بتهمة تبييض الأموال، رغم تأكيد كل من يعرفها أن نشاطها كان دومًا في إطار القانون والشفافية.
  • جمعية تونس أرض اللجوء (Tunisie Terre d’Asile ): هي منظمة غير حكومية تأسست عام 2012 بدعم من منظمة فرنسا أرض اللجوء، وتهدف إلى الدفاع عن حقوق اللاجئين والمهاجرين في تونس وتوفير المساعدة القانونية والإنسانية لهم. لعبت الجمعية أيضًا دورًا في التبليغ عن حالات الاتجار بالبشر والتنسيق مع الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار لحماية الضحايا. تعرضت هذه الجمعية لضربة قاصمة في ماي 2024، إذ تم اعتقال كامل فريق إدارتها تقريبًا على خلفية قضية واحدة. فقد أوقفت السلطات في 7 و8 ماي 2024 كلًا من شريفة الرياحي (المديرة التنفيذية السابقة للجمعية)، وعياض بوسالمي -المدير التنفيذي الحالي آنذاك- ومحمد جوعو المسؤول المالي للجمعية). جاءت حملة الإيقافات بعد أن أعلنت الجمعية عن مشروع إنساني لإيواء المهاجرين واللاجئين الأكثر هشاشة بالتعاون مع السلطات المحلية، في استجابة لموجة العنف ضد مهاجري جنوب الصحراء. إلا أن هذه المبادرة قُوبلت باتهامات رسمية للجمعية بـ“تكوين وفاق بقصد تبييض الأموال” و”توطين أشخاص أجانب بصفة غير قانونية”. وجرى التحقيق مع أعضائها بتهم تشمل تلقي تمويلات أجنبية مشبوهة والتدليس (التزوير). ورغم أن شريفة الرياحي كانت في فترة إجازة أمومة وترعى طفلين رضيعين، تم سجنها احتياطيًا منذ 7 ماي 2024. ولم تتمكن طوال فترة توقيفها من إرضاع ابنتها حديثة الولادة، مما أثار تعاطفًا وغضبًا كبيرين في الأوساط الحقوقية. وخلال الأشهر التالية، لم يُقدَّم أي دليل ملموس على تهم غسل الأموال الموجهة لشريفة وزملائها، واضطرت السلطات للإعلان عن سقوط تهمة تبييض الأموال عنها لعدم ثبوتها. لكن بدل الإفراج عنها، فُوجئت الرياحي باتهام جديد هو “إيواء مهاجر غير شرعي”، وهي جنحة بسيطة تتعلق باستضافتها شخصًا أجنبيا دون أوراق في مركز إيواء مؤقت. وبرغم أن هذه التهمة في حال ثبوتها لا تستوجب عادةً التوقيف المطوّل، أبقت السلطات شريفة في السجن لأشهر طويلة. وبحلول مارس 2025، كانت قد قضت ما يزيد عن 300 يوم في الحبس الاحتياطي دون محاكمة نهائية، مما دفع عائلتها إلى المطالبة دوليًا بإطلاق سراحها. الوضع نفسه ينطبق على زميليها عياض بوسالمي ومحمد جوعو، إذ لا يزالان موقوفَين لنفس القضية وبنفس التهم. وتجدر الإشارة أن بوسالمي هو دبلوماسي تونسي سابق وخبير أممي في قضايا اللجوء، وأن شريفة الرياحي معروفة بنشاطها الاجتماعي والتطوعي قبل هذه الأحداث – ما يؤكد أن استهدافهم جاء على خلفية عملهم الإنساني المشروع وليس لأي تجاوز حقيقي.
  • المجلس التونسي للاجئين: تأسس هذا المجلس عام 2016 بمبادرة من الأستاذ مصطفى الجمالي وهو مسؤول أممي سابق (شغل منصب مدير إقليمي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين). يعمل المجلس بالشراكة مع مفوضية اللاجئين على استقبال طالبي اللجوء في تونس وتسهيل إجراءات دراستها، إضافة إلى مساعدة اللاجئين المسجلين عبر برامج الإغاثة وإيجاد الحلول الدائمة. في بداية ماي 2024، تعرض المجلس بدوره لهجمة أمنية: حيث تم إيقاف كل من رئيسه مصطفى الجمالي ومدير المشاريع بالمجلس عبد الرزاق الكريمي. حصل ذلك في 3 ماي 2024 بالنسبة للجمالي، و9ماي 2024 بالنسبة للكريمي. وتتلخص خلفية القضية في نفس الوقائع المذكورة آنفًا: مشاركة المجلس في إعلان طلب عروض بالتنسيق مع جهات رسمية لإيواء حالات من اللاجئين وطالبي اللجوء الأكثر ضعفًا. اعتبرت السلطات هذه التحركات تجاوزًا يقتضي العقاب، فوجهت لكل من الجمالي والكريمي تهمًا خطيرة من قبيل “تكوين وفاق بقصد غسل الأموال باستغلال التسهيلات التي يخوّلها النشاط الاجتماعي” والتدليس واستعمال مدلس. تم التحقيق معهما من قبل قضاة التحقيق في كل من المحكمة الابتدائية بتونس والقطب القضائي الاقتصادي والمالي، في تواتر إجراءات يبدو أنه يهدف إلى إبقائهما قيد التوقيف أطول فترة ممكنة. بالفعل، أُغلق مقر المجلس وتوقف نشاطه بالكامل بعد سجن رئيسه ومديره، مما شلّ عملية استقبال طالبي اللجوء الجدد في تونس. وقد انعكس ذلك مباشرةً على مئات الأشخاص (نصفهم من السودانيين الهاربين من الحرب) الذين وجدوا أبواب المجلس موصدة واضطروا لانتظار المجهول دون وثائق أو دعم. إن التهم الموجهة للجمالي والكريمي – كتبييض الأموال – تصل عقوباتها إلى عشرات السنوات من السجن طبقًا للقانون التونسي لمكافحة غسل الأموال، بالإضافة إلى غرامات مالية كبيرة. ومع ذلك، لم يُعلن حتى مطلع 2025 عن أية أدلة تدينهما، وسط مطالبات حقوقية بالإفراج عنهما باعتبار أن نشاط المجلس كان قانونيًا وشفافًا بشهادة المفوضية الأممية نفسها.
  • بلدية سوسة وشراكة مشروع الهجرة: لم يقتصر استهداف النشطاء على العاملين في الجمعيات فقط، بل طال أيضًا مسؤولين محليين تجرأوا على التعاون مع المجتمع المدني لدعم المهاجرين. في هذا الإطار برزت قضية رئيس بلدية سوسة محمد إقبال خالد ونائبته إيمان الورداني. فخلال سنة 2023 عقدت بلدية سوسة (ثالث أكبر مدينة تونسية) اتفاقية شراكة مع جمعية “تونس أرض اللجوء” لافتتاح مكتب محلي يُعنى بتوجيه المهاجرين واللاجئين ومساعدتهم على الاندماج والخدمات. لكن في خضم الحملة الأمنية في مايو 2024، تم إيقاف رئيس البلدية محمد إقبال خالد ونائبته الدكتورة إيمان الورداني في 10 ماي 2024. وُجّهت لكليهما قائمة تهم مطابقة تقريبًا لتلك المنسوبة لنشطاء الجمعيات، وهي: تبييض الأموال، والتدليس (تزوير وثائق)، وتكوين وفاق (جمعية) بقصد إدخال أشخاص أجانب إلى التراب التونسي، واستغلال الوظيفة. بمعنى آخر، اعتُبر التعاون الرسمي بين البلدية وجمعية معترف بها جريمة في نظر السلطات المركزية. ومن المفارقات أن إيمان الورداني – وهي دكتورة جامعية ترأست لجنة تكافؤ الفرص في المجلس البلدي – كانت خلال جائحة كوفيد قد أشرفت على مبادرات لإغاثة الفئات الهشة في سوسة، بمن فيهم المهاجرون، ونالت عن ذلك الإشادة. ومع ذلك، وجدت نفسها متهمة أمام القضاء بتسهيل “دخول مهاجرين” لمجرّد عملها على مساعدة مقيمين موجودين فعليًا في المدينة. وما زال كل من رئيس البلدية ونائبته رهن الاحتجاز منذ منتصف 2024 دون إفراج، رغم أن أقصى ما يمكن أن تسفر عنه قضيتهم – في حال صحتها – هو مخالفات إدارية في الصلاحيات المحلية. تُظهر هذه القضية كيف بات أي مستوى من الدعم الرسمي للمهاجرين معرضًا للتجريم تحت ضغط المناخ السياسي الحالي، لدرجة شلّ العمل البلدي نفسه في ملفات إدماج الأجانب.
  • جمعية تفعيل الحق في الاختلاف: هي منظمة حقوقية تأسست في أفريل 2011 وتعنى بالدفاع عن التنوع وحقوق الإنسان ومناهضة جميع أشكال التمييز. ركزت في جزء من أنشطتها على تعزيز ثقافة المواطنة المتساوية بغض النظر عن اللون أو الدين أو غيره، مما جعلها صوتًا في مواجهة العنصرية أيضًا. بتاريخ 10 ديسمبر 2024 (تزامنًا مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان)، اعتُقلت سلوى غريسة المديرة التنفيذية للجمعية، عقب حملة تحريض استهدفت منظمتها على الإنترنت. وُجهت إلى سلوى تهمة تبييض الأموال أيضًا، رغم استغراب كثيرين من كيفية تطبيقها على جمعية حقوقية صغيرة تعتمد في تمويلها على تبرعات مشروعة ومعلنة. أكدت شقيقة سلوى في تصريح صحفي أن لا وجود لأي إثبات مادي على هذه التهمة رغم كل عمليات التدقيق التي أجرتها السلطات، وأن سجن أختها هو ظلم بحت عقابًا لها على نشاطها الحقوقي. لا تزال سلوى غريسة موقوفة منذ ذلك الحين على ذمة التحقيق، وبذلك انضمت إلى قائمة النساء الناشطات القابعات وراء القضبان في تونس الحديثة بسبب عملهن الإنساني (إلى جانب سعدية مصباح وشريفة الرياحي وإيمان الورداني). ويُذكر أن منظمة تفعيل الحق في الاختلاف اضطرت لوقف معظم أنشطتها إثر ذلك، في انتظار ما ستسفر عنه القضية.
  • جمعية أطفال القمر – مدنين: آخر القضايا التي برزت نهاية 2024 كانت إيقاف عبد الله السعيد رئيس جمعية “أطفال القمر” بمحافظة مدنين (وهي جمعية تهتم أساسًا برعاية الأطفال المصابين بمرض جلدي نادر). ما صلة هذه الجمعية بملف الهجرة؟ يبدو أن السلطات ارتابت في نشاط فرعي كانت الجمعية تقوم به وهو تقديم دورات تدريب مهنية في الخياطة وصنع الحلويات للنساء المهاجرات الأفريقيات في الجنوب التونسي، لمساعدتهن على اكتساب مهارات تدرّ دخلاً. في أواخر نوفمبر 2024، تم توقيف عبد الله السعيد واثنين من زملائه بالجمعية، واستلمت فرقة مكافحة الإرهاب ملف القضية في البداية. ورغم غرابة إقحام مكافحة الإرهاب هنا، فقد أشارت التحريات الأولية إلى عدم اختصاص تلك الفرقة، مما أدى إلى إسقاط شبهة تبييض الأموال عنهم وإحالة الملف إلى القضاء العادي. ولم تستطع السلطات إيجاد أي دليل على جرائم مالية أو أمنية، لكن مجرد مساعدة مهاجرات غير نظاميات على الاندماج اقتصاديا اعتُبرت ذنبًا كافيًا لتوقيف نشطاء جمعية أطفال القمر لبعض الوقت. وتعكس قضيته مدى توسّع دائرة الاستهداف لتشمل أي جهة تمت لملف المهاجرين بصلة، حتى لو كان نشاطها الاجتماعي عرضيًا في هذا المجال. وقد خلق ذلك جوًا من الخوف لدى جمعيات أخرى: فكثير من المنظمات الخيرية والتنموية باتت تحجم عن إشراك المهاجرين أو اللاجئين في برامجها، خشية التعرض للتخوين أو الملاحقة.

1. عياض بوسالمي
أكاديمي ودبلوماسي سابق قضى 20 عامًا في السلك الدبلوماسي التونسي، وله تجربة في هياكل الأمم المتحدة. تولى إدارة جمعية “تونس أرض اللجوء” منذ أفريل 2023. يتمتع بخبرة واسعة في قضايا الهجرة واللجوء، وساهم في الدفاع عن حقوق المهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء.

2. سعدية مصباح
ناشطة حقوقية بارزة كرّست مسيرتها لمناهضة العنصرية والدفاع عن حقوق التونسيين السود. أسّست جمعية “منامتي” للتوعية بمخاطر التمييز العنصري وخطاب الكراهية. سعت إلى كسر الصور النمطية وتحقيق المساواة بين مكونات المجتمع التونسي.

3. عبد الله السعيد
ناشط مدني تونسي من أصول تشادية حصل على الجنسية التونسية سنة 2012. أسّس ورأس جمعية “أطفال القمر بمدنين” لدعم المهاجرين والفئات المستضعفة عبر الإحاطة الاجتماعية والطبية والتعليمية. ساهم في تنسيق جهود المجتمع المدني في جهة مدنين وشراكات مع الدولة والمنظمات الدولية.

4. إيمان الورداني
حاصلة على دكتوراه في البيولوجيا وتشغل منصب نائبة رئيس بلدية سوسة. ترأست لجنة تكافؤ الفرص وساهمت خلال أزمة كوفيد في دعم الفئات الهشة، خاصة المهاجرين. دعمت العمل المدني وساهمت في تعزيز التضامن الاجتماعي بالمدينة.

5. شريفة الرياحي
مهندسة وناشطة حقوقية شاركت في العمل المدني منذ الثورة وساهمت في الدفاع عن السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية. تولّت إدارة جمعية “أرض اللجوء – تونس” من 2019 إلى أفريل 2023، وساهمت في مشاريع تتعلق بالهجرة بالتعاون مع الدولة والمنظمات الدولية. تواصل عملها في مجال الهجرة والتكوين في القانون الإنساني الدولي. شغلت مؤخرا خطة منسقة برنامج “آفاق” لدعم تشغيل الشباب والمبادرات التونسية في الخارج.

6. سلوى غريسة
جامعية وناشطة حقوقية، تشغل منصب المديرة التنفيذية لجمعية “تفعيل الحق في الاختلاف” منذ تأسيسها سنة 2011. تعمل على تعزيز احترام حقوق الإنسان والتنوع والمواطنة الفعالة في تونس.

7. عبد الرزاق الكريمي
أستاذ وناشط مدني يشغل منصب مدير المشاريع بالمجلس التونسي للاجئين. يساهم في دعم السلطات التونسية لمعالجة تحديات اللجوء وتقديم المساعدة الإنسانية للاجئين في تونس.

8. مصطفى الجمالي
موظف أممي سابق ومدير إقليمي سابق في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (يحمل الجنسية التونسية والسويسرية). كان يشغل منصب المستشار الخاص للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومدير مكتب آسيا الوسطى وجنوب غرب آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وقد أمضى كامل حياته المهنية في المفوضية منذ العام 1980 ولغاية العام 2004 في تقديم يد العون الى اللاجئين. أسس المجلس التونسي للاجئين سنة 2016 ويترأسه، وهو إطار غير حكومي لمساعدة اللاجئين ودعم مؤسسات الدولة في هذا المجال.

9. محمد إقبال خالد
انتُخب رئيسًا لبلدية سوسة سنة 2019 ضمن قائمة مستقلة. برز خلال أزمة كوفيد بمبادراته لدعم الفئات الهشة، ومن ضمنهم المهاجرون، وشجع على تنمية العمل المدني بالمدينة.

10. محمد جوعو
ناشط مدني ومسؤول مالي في جمعية “تونس أرض اللجوء” منذ أكتوبر 2020. شارك في العديد من الأنشطة التطوعية ويُعرف بدوره في الإدارة المالية للجمعية.

ملخص الانتهاكات وأساليب التضييق

يمكن تلخيص المشهد العام للمضايقات التي طالت نشطاء وجمعيات الهجرة واللجوء في تونس منذ 2023 كما يلي:

  • الإيقافات التعسفية والاحتجاز المطوّل: أوقِف ما لا يقل عن عشرة نشطاء وناشطات في هذا المجال خلال الفترة بين ماي 2024 وبداية 2025، بينهم رؤساء خمس منظمات على الأقل. وتمت إحالتهم جميعًا على الحبس الاحتياطي لفترات طويلة تجاوزت في بعض الحالات 10 أشهر دون أحكام. هذا الاستخدام المفرط للإيقاف التحفظي مثّل عقوبة في حد ذاته ووسيلة لإسكات الأصوات وتجميد أنشطة الجمعيات.
  • توجيه تهم جنائية خطيرة وغير متناسبة: ركّزت السلطات على تهمة “تبييض الأموال” بصورة شبه موحّدة ضد مختلف النشطاء، مع إضافات مثل التآمر وتزوير الوثائق وتلقّي تمويلات أجنبية غير مشروعة، وأحيانًا تهمة “تسهيل دخول وإقامة أجانب بصفة غير قانونية”. هذه التهم، رغم فداحتها، لم تدعمها أدلة ملموسة وفق ما ظهر خلال مجريات التحقيق. لكن خطورتها القانونية سمحت باحتجاز المتهمين وتهديدهم بعقوبات سجن قد تصل إلى عشر سنوات أو أكثر، مما خلق ضغطًا نفسيًا كبيرًا عليهم وعلى عائلاتهم.
  • إغلاق مقار الجمعيات وتجميد أنشطتها: بعد اعتقال مسؤولي الجمعيات المستهدفة، قامت السلطات فعليًا بشلّ تلك المنظمات. أُغلقت مكاتب المجلس التونسي للاجئين وجمعية أرض اللجوء وجمعية منامتي وغيرها، إما رسميًا أو بحكم الأمر الواقع. صادر الأمن المعدات والملفات الإدارية والمالية خلال المداهمات، واستدعى موظفين آخرين للتحقيق مما بثّ الذعر في صفوف بقية الناشطين. ونتيجة لذلك، تراجع عدد الجمعيات النشيطة في دعم المهاجرين بشكل ملحوظ بحلول 2025، حيث باتت معظمها إمّا مجمدة أو تعمل بحذر شديد وتحت الرقابة اللصيقة. حتى أن بعض المنظمات الدولية أو الإقليمية التي كانت تتخذ تونس مقرًا لها لنشاط الهجرة (بعد انتقالها سابقًا من ليبيا) اضطرت إلى مغادرة تونس هي الأخرى خوفًا على كوادرها.
    التشهير والترهيب الإعلامي: صاحبت الإجراءات الأمنية حملة إعلامية ممنهجة لتشويه سمعة هؤلاء النشطاء والجمعيات. فقد ظهرت تدوينات ومنشورات على فيسبوك ووسائل إعلامية مقربة من السلطة تتهمهم بـ“بيع الوطن” و“تلقي أموال من جهات أجنبية لزرع الفوضى”، إلى جانب استخدام عبارات عنصرية ضد الناشطات (مثال: التخوين بسبب التضامن مع المهاجرين السود). كما استُخدمت تصريحات رسمية لدعم هذا التوجه، مثل اتهام الرئيس سعيّد العلني للجمعيات بأنها “امتداد لقوى أجنبية تضخ أموالاً لخدمة مصالح مشبوهة” (تصريح في فبراير 2023). هذه الحملة الترهيبية لم تكتفِ بتشويه المعتقلين، بل هدفت أيضًا إلى ردع الآخرين عن أي محاولة للدفاع عنهم أو مواصلة عملهم. وقد أكدت شخصيات حقوقية بارزة أن ما يحدث هو قرار سياسي لقمع المجتمع المدني تحت غطاء قانوني.
    الإجراءات القانونية التعسفية: رصد محامو الدفاع عدة تجاوزات في التعامل القانوني مع هذه القضايا، من ذلك: مداهمات بدون أذون قضائية واضحة، التحقيق لساعات متأخرة مع الموقوفين (كما حصل مع شريفة الرياحي التي تم استجوابها قرابة منتصف الليل وهي منهكة)، إضافة إلى تجاهل ضمانات المحاكمة العادلة عبر تمديد الإيقاف التحفظي بشكل روتيني ومنع الإفراج المؤقت رغم انتفاء مبرراته. يُذكر أيضًا استخدام المرسوم 54 لسنة 2022 المتعلق بجرائم المعلومات ضد بعض الأصوات التي دافعت عن المهاجرين. فالإعلامية سنية الدهماني مثلًا اعتُقلت وحوكمت بموجب هذا المرسوم بعد أن انتقدت عبر التلفزيون مزاعم “توطين المهاجرين” ووصفت الوضع المتردي بعبارة ساخرة، فاعتُبرت تلك “أخبارًا كاذبة” عوقبت عليها بالسجن ثمانية أشهر. يُبرز ذلك أن الترسانة القانونية ذاتها (مرسوم 54، تهم الإرهاب…) استُخدمت كسيف مُسلّط لإخماد أي معارضة للسردية الرسمية حول ملف الهجرة.

في المحصلة، أوجدت هذه الانتهاكات حالة من الشلل في المجتمع المدني التونسي فيما يخص الدفاع عن المهاجرين واللاجئين. فبينما تُفاخر السلطات خارجيًا بتعاونها مع منظمات غير حكومية في التكفل بالمهاجرين، تقوم داخليًا بقمع تلك المنظمات وتجريمها. وقد دفع هذا التناقض الصارخ منظمات حقوق الإنسان إلى دق ناقوس الخطر، محذرةً من أن تونس تشهد انتكاسة غير مسبوقة في مجال حرية تكوين الجمعيات وعملها منذ الثورة. كما شددت على أن الحملات ضد نشطاء الهجرة ليست منعزلة، بل تأتي في سياق قمع أشمل يطول القضاة المستقلين والصحافة والمعارضة، مما يقوّض دولة القانون ويشكل خرقًا لالتزامات تونس الدولية في مجال حقوق الإنسان.

التوثيق الحقوقي والإحصائي للوضع الراهن

تعكس الحالات المذكورة صورة قاتمة لوضع حقوق الإنسان في تونس حاليًا، وقد وثّقت المنظمات الدولية هذه التطورات بانتباه. ففي تقرير مشترك صدر في مايو 2024 عن عدد من الهيئات الحقوقية الدولية، جرى التنبيه إلى تصاعد حملة قمع المجتمع المدني في تونس بالتزامن مع تصاعد العنف ضد المهاجرين. وأشارت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش في بيانات متزامنة إلى أن السلطات التونسية اعتقلت ما لا يقل عن 9 أشخاص في أسبوع واحد من شهر ماي 2024 منهم محامون وصحفيون وناشطون في قضايا الهجرة والعنصرية، معتبرةً ذلك جزءًا من نمط لقمع أي صوت مستقل. كما أكدت هيومن رايتس ووتش أن 8 منظمات غير حكومية على الأقل طالتها التحقيقات أو الملاحقات خلال تلك الفترة، وهو رقم غير مسبوق منذ عقد.

على صعيد آخر، تُبرز الإحصائيات الإنسانية حجم الأزمة: فقد سجّلت المنظمة الدولية للهجرة ارتفاعًا كبيرًا في أعداد المهاجرين الذين خاطروا بركوب البحر من السواحل التونسية باتجاه أوروبا عام 2023 مقارنة بالسنوات السابقة، رغم (أو بسبب) سياسة التشديد الأمني. وتقدّر السلطات الإيطالية أن عشرات الآلاف وصلوا إلى شواطئها انطلاقًا من تونس في ذلك العام، مما وضع تونس في مرتبة متقدمة كمصدر لحركة الهجرة غير النظامية. وفي المقابل، ازداد أيضًا عدد المفقودين والغرقى في عرض البحر نتيجة تكدّس القوارب المتهالكة بالمهاجرين اليائسين؛ حيث أعلنت منظمات إنسانية غرق ما يزيد عن 1400 مهاجر في المتوسط الأوسط خلال 2022 و2023 – كثير منهم انطلقوا من ليبيا وتونس. هذه الأرقام المأساوية تكذب الادعاء بأن تشديد الخناق داخليًا سيمنع الهجرة، بل على العكس دفعت الكثيرين للمجازفة بحياتهم هربًا من وضع لا يُحتمل.
أما المفوضية السامية لشؤون اللاجئين فأعربت في تقاريرها عن قلق بالغ إزاء أوضاع طالبي اللجوء في تونس. فإلى جانب أرقامها المذكورة بشأن تعدادهم (أكثر من عشرة آلاف شخص)، نوّهت إلى أن 77% من عينة اللاجئين الذين تم استطلاعهم في تونس أواخر 2024 أفادوا بأنهم تعرضوا لشكل من أشكال الانتهاك أو المعاملة السيئة – سواء من قبل السلطات أو أفراد في المجتمع – خلال الأشهر السابقة. وهذه نسبة صادمة تدل على بيئة طاردة وخطرة للاجئين. ولمواجهة ذلك، دعت المفوضية تونس مرارًا إلى الإسراع في اعتماد قانون اللجوء الوطني وتوفير الحماية اللازمة، إلا أن هذه الدعوات لم تلق آذانًا صاغية حتى الآن.

من جهتها، شددت منظمات تونسية مستقلة (مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) على الحاجة إلى تضامن أفريقي ودولي للدفاع عن المهاجرين في تونس. ففي بيان مشترك مع منظمات من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، طالبت بفتح تحقيقات في مصير المئات من المهاجرين المفقودين وبالإفراج عن النشطاء المسجونين بسبب نشاطهم الإنساني. كما دعت إلى عدم رضوخ الدول الأفريقية للخطاب التونسي الرسمي الذي يصوّر المرحّلين الطوعيين وكأنهم غادروا بلا ضغوط، مؤكدةً أن العودة “الطوعية” تمت في كثير من الحالات تحت التهديد بانعدام الأمن أو الترحيل القسري.

خاتمة وتوصيات

في الختام، تكشف وقائع العامين الماضيين في تونس عن صورة قاتمة: دولة تواجه أزمتها السياسية والاقتصادية عبر تصديرها أزمة مفتعلة نحو أضعف الحلقات، أي المهاجرين، ومن يدافع عنهم. لقد أصبح مناخ الترهيب هو القاعدة لكل من يعمل في الشأن المدني والحقوقي، خاصة في ملف شديد الحساسية كاللجوء والهجرة. وإذ أعدّ “مرصد الحرية لتونس” هذا الملف فإنه يدعو السلطات التونسية إلى مراجعة هذه السياسة العدمية ووضع حدّ لتجريم التضامن الإنساني. كما يناشد القضاء التونسي الالتزام باستقلاليته وكف يد السلطة التنفيذية عن توظيفه لاستهداف الناشطين، وذلك عبر الإفراج الفوري عن الموقوفين لغياب الأدلة وتمكينهم من محاكمات عادلة إن وجدت تهم جدية. وعلى المستوى الدولي، يأمل المرصد أن تتوقف الجهات المانحة عن تلميع صورة السلطات التونسية أو عقد اتفاقيات معها تغلّب الاعتبارات الأمنية على حساب حقوق الإنسان. فتونس التي كانت يومًا ملاذًا آمنًا نسبيًا في إقليم مضطرب، لا يجب أن تصبح سجنًا أو مقبرة لمن يطلب اللجوء او العبور او الأمان. إن احترام كرامة المهاجرين واللاجئين وحماية المدافعين عنهم هو اختبار حقيقي لمدى التزام تونس بالقيم الإنسانية العالمية، وأي فشل في هذا الاختبار ستكون كلفته باهظة على سمعة البلاد ومستقبلها الديمقراطي.

مراجع

نداء إلى العمل من أجل حقوق الإنسان في تونس

عريضة الموقع: الحرية لمعتقلي الرأي والنشطاء في تونس !

‎لم تعد تونس الاستثناء العربي الوحيد الذي أشعل فتيل الثورات في العالم سنة 2011 بثورة بطولية أطاحت بحكم زين العابدين بن علي، الذي ظل مستمرا لمدة تناهز 23 سنة بعد استيلاءه على السلطة في 7 نوفمبر 1987 خلفا للحبيب بورقيبة.

في خطوة مماثلة وربما أكثر خطورة، أقدم الرئيس التونسي قيس سعيد ليلة 25 يوليو 2021 على القيام “بانقلاب دستوري” وفقا لتأويله الشخصي للفصل 80 من دستور الثورة 2014 مُعلنا اتخاذه مجموعة من الإجراءات الاستثنائية بسبب “خطر داهم” يهدد البلاد التونسية دون تقديم أي تفاصيل وأسباب الى حدّ كتابة هذه الأسطر.

وبموجب تلك الإجراءات قرر سعيّد عزل الحكومة ورئيسها “هشام المشيشي” الذي كان حاضرا في اجتماع مجلس الأمن القومي تلك الليلة بقصر قرطاج، وزعم أنه اتصل برئيس البرلمان راشد الغنوشي (زعيم حزب حركة النهضة) للتشاور معه وفق ما يمليه الدستور، الأمر الذي نفاه الغنوشي مؤكدا انه اتصال عادي لم يتضمن أي مشاورات أو حديث حول فحوى الإجراءات الاستثنائية، وقام الرئيس بتجميد أعمال البرلمان ثم حله في مارس/ آذار 2022.

ولم يكتف الرئيس سعيّد بتجاوز صلاحياته وفصول الدستور التي أقسم على الحفاظ عليه أمام مجلس نواب الشعب بل وقام بتغيير تركيبة المجلس الأعلى للقضاء واعتبره “وظيفة” وليس سلطة مستقلة بذاتها وقام أيضا بتغيير تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تحضيرا لمراحل انتخابية عقدها لفائدة تغيير دستور كتبه بنفسه وألغى آراء اللجان الاستشارية التي عينها بنفسه أيضا. ثم نظم انتخابات تشريعية على دورتين لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 8% من مجموع الناخيبن وتداركت هيئة الانتخابات الاحصائيات فيما بعد لتعلن أنها وصلت لـ11 %وهو الرقم الأدنى عالميا ومحليا.

بتاريخ 11 فبراير/شباط شن نظام الرئيس سعيد حملة اعتقالات لم تتوقف، شملت نشطاء سياسيين ورجال أعمال واعلاميين وصحفيين وقضاة وموظفين سامين في الدولة تحت عنوان “التآمر على أمن الدولة وارتكاب فعل موحش ضد رئيس الجمهورية” إضافة لتهم أخرى تم إحالتها على النيابة العسكرية ما يطرح أسئلة حول مدى تدخل الجيش التونسي في الإجراءات التي قام بها الرئيس سعيد.

وقد شابت عمليات الاعتقال التعسفي عدة خروقات وإخلالات إجرائية وسط تحذيرات من المنظمات والمراصد الدولية الناشطة بمجال حقوق الانسان ولم يتم احترام معايير التقاضي والإقامة السجنية وطالت الملاحقات في بعض الأحيان عائلات الضحايا وأسرهم ووظائفهم ولم يتم إثبات أي تهم أو وقائع منسوبة للمتهمين.

كما تتعرض النقابات والأحزاب السياسية لمضايقات مستمرة ولم يتوقف الرئيس سعيد عن اتهام كافة الأجسام الوسيطة بمختلف أنواعها “بالعمالة” أو “الخيانة” ولم تسلم المنظمات والجمعيات من الملاحقات والاعتقالات التعسفية والحرمان من التمثيل القانوني وسط ارتفاع وتيرة العنف في المجتمع بسبب تبني السلطات خطابات وشعارات عنصرية وتمييزية محرضة على الاقتتال وانتهاك الكرامة الإنسانية.

على ضوء كل ما تقدمنا به من أسباب نحن الموقعون أسفله نطالب:

أولا: بالدعوة لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين فوراً ودون قيد أو شرط كما نحثَ السلطات التونسية على احترام التزاماتها الدولية والمعاهدات الدولية لحقوق الانسان التي صادقت عليها.

ثانيا: ندعو من السلطات التونسية أن توقف نزيف نسف الديمقراطية الناشئة والمحاكمات الجائرة والملاحقات المستمرة ضد خصوم النظام السياسيين وكل من ينتقده بالرأي او الكلمة او التعبير.

ثالثا: ندعو كل النشطاء والمتابعين للانخراط في المسار الوطني والدولي لإعادة الديمقراطية وإنهاء الحكم الفردي الذي عاد بتونس لسنوات الاستبداد والظلم وانتهاك الحقوق والحريات.