قررت الدائرة الجنائية الخامسة المختصّة في قضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية بتونس عقد جلسات المحاكمة عن بُعد في قضية التآمر على أمن الدولة وعدم جلب المتهمين من السجن إلى قاعة المحكمة وقد تأكد أن جلسة 4 مارس 2025 (وهي أولى جلسات المحاكمة) عُقدت عبر تقنية الفيديو بدون حضور الموقوفين جسديًا، حيث تابع المتهمون الجلسة من داخل السجن عبر شاشة، وتواصل القاضي معهم بواسطتها وقد جاء هذا القرار القضائي بدعوى وجود “خطر حقيقي” حال دون إحضار الموقوفين إلى المحكمة وبحسب ما نُقل عن الجهات الرسمية، فإن السلطات اعتبرت أن هناك اعتبارات أمنية تستوجب هذا الإجراء الاستثنائي لضمان سلامة سير المحاكمة.
خلفية القضية: قمع الأصوات المعارضة تحت ذريعة الأمن القومي
تعود جذور القضية إلى حملة اعتقالات ممنهجة استهدفت رموز المعارضة السياسية في تونس منذ فيفري 2023، حيث طالت عددا من الشخصيات البارزة من بينهم خيام التركي وعصام الشابي (الأمين العام للحزب الجمهوري)، وغازي الشواشي (الأمين العام السابق للتيار الديمقراطي) وجوهر بن مبارك وعبد الحميد الجلاصي ورضا بلحاج إلى جانب قيادات حزبية ونشطاء آخرين بينهم من هو خارج البلاد.
ووُجِّهت لهم تهم تتعلق بـ”التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي”، و”تكوين وفاق إرهابي”، و”الاتصال بجهات أجنبية”، وهي تهم تفتقر إلى القانونية الجادة وتندرج في إطار حملة تصفية سياسية تهدف إلى إقصاء المعارضين وترهيب القوى الديمقراطية.
المحاكمة عن بُعد: آلية للتحكم في القضاء والتعتيم على القضية
اثار القرار القضائي (او بالتحديد إدارة المحكمة) جدلًا قانونيًا حول مدى احترامه لحقوق المتهمين وضمانات المحاكمة العادلة. حيث يؤكد محامو الدفاع وغالبية الحقوقيين أن الإجراء ينتهك صراحة حقوق المتهمين وقد وصفوه بأنه “انحراف خطير في المنظومة القضائية” يضرب حق المتهم في الحضور ويحدّ من قدرته على الدفاع عن نفسه.
وبالنظر إلى القوانين التونسية والمعايير الدولية، يشير المحامون إلى أن الأصل في المحاكمات الجزائية هو حضور المتهم شخصيًا أمام المحكمة، حيث يتمكن من سماع الشهود ومواجهة الأدلة والحديث بحرية إلى محاميه وللمحكمة. فغياب المتهم جسديًا قد يحول دون تفاعله الكامل مع مجريات المحاكمة، خاصة إذا حدثت أعطال تقنية أو صعوبات تواصل عبر الفيديو. لذلك يعتبر الدفاع أن عدم إحضار الموقوفين فيه مساس بجوهر العدالة وقد يشكّل بطلانًا للإجراءات إن ثبت انتفاء مبرراته.
وقد لجأت هيئة الدفاع فعلًا إلى إجراءات قانونية، منها رفع دعاوى لدى القضاء الإداري لإلغاء قرار المحاكمة عن بعد وتأجيل الجلسة حتى تأمين حضور المتهمين في محاولة لوقف ما تراه إجراءً تعسفيًا.
في المقابل، ترى جهات قانونية أخرى (خصوصًا المقربة من السلطات) أن القرار له سند قانوني في المنظومة التونسية. فقد أدخلت تونس في السنوات الماضية فصولًا تسمح باستعمال التقنيات السمعية البصرية في المحاكمات ضمن ظروف خاصة. على سبيل المثال، الفصل 141 مكرر من مجلة الإجراءات الجزائية يجيز للمحكمة من تلقاء نفسها أو بطلب من النيابة أو المتهم اعتماد التواصل السمعي-البصري لظهور المتهم الموقوف من سجنه أمام هيئة المحكمة. كما ينص هذا الفصل على أنه في حالة وجود خطر حالّ أو للوقاية من مرض وبائي يمكن للمحكمة اتخاذ هذا الإجراء دون الحاجة لموافقة المتهم.
إضافة لذلك، يُشير الفصل 73 من القانون الأساسي رقم 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب إلى إمكانية انعقاد جلسات المحاكمة في مكان غير المقر المعتاد للمحكمة، بل ويمكن لرئيس المحكمة أو قاضي التحقيق استنطاق المتهم وتلقي الشهادات عبر وسائل الاتصال السمعي البصري المناسبة دون حضور الشخص المعني وبناءً على هذه النصوص، يجادل مؤيدو القرار بأن القضاء تصرّف ضمن صلاحياته القانونية خصوصًا وأن التهم تتعلق بالإرهاب وأمن الدولة.
مع ذلك فان الاستثناء لا ينبغي أن يصبح هو القاعدة، فحتى لو أجاز القانون تقنيًا المحاكمة عن بعد في حالات محددة، فإن تطبيقها على قضية سياسية حساسة كهذه يبعث برسائل سلبية حول نزاهة المحاكمة ويبدو أن مبرر “الخطر الأمني” ذريعة واهية لتفادي محاكمة علنية شفافة قد تُحرج السلطات خاصةً وأن قاعة المحكمة يمكن تأمينها بإجراءات أمن مشددة عادةً دون الحاجة لإلغاء حضور المتهمين بالكامل.
“مع ذلك فان الاستثناء لا ينبغي أن يصبح هو القاعدة، فحتى لو أجاز القانون تقنيًا المحاكمة عن بعد في حالات محددة، فإن تطبيقها على قضية سياسية حساسة كهذه يبعث برسائل سلبية”
ردود فعل المعارضة وعائلات المعتقلين: رفض شعبي واسع لمحاكمات مغلقة
قوبل قرار المحاكمة عن بعد برفض واسع من قبل المعارضة وعائلات المعتقلين، حيث نظموا وقفات احتجاجية أمام المحكمة مطالبين بمحاكمة علنية تتيح للمتهمين الحضور الجسدي أمام القضاء. ورفع المتظاهرون شعارات مناهضة لتسييس القضاء، مؤكدين أن “العدالة لا تُدار عبر الشاشات”.
من جهتها، أكدت جبهة الخلاص الوطني أن حرمان المتهمين من حضور محاكمتهم يُمثّل انتهاكًا خطيرًا لحقوقهم الأساسية، ويجعل المحاكمة غير نزيهة وغير شفافة. كما اعتبر أحمد نجيب الشابي، رئيس الجبهة، أن “السلطة تريد محاكمة لا يراها ولا يسمع بها أحد”، مما يبرهن على الطابع القمعي لهذا المسار القضائي.
موقف هيئة الدفاع والمنظمات الحقوقية: خرق واضح للمعايير الدولية
رفض محامو الدفاع هذا الإجراء واعتبروه مسًّا صارخًا بحقوق موكليهم. وصرّحت المحامية دليلة مصدّق بأن المحاكمة عبر الفيديو “تقطع أي تواصل وجداني بين المتهم وقاضيه، مما يؤدي إلى محاكمة شكلية لا توفر أي ضمانات للعدالة“. كما شددت هيئة الدفاع على أن المحاكمة الحضورية حق أصيل لا يمكن الالتفاف عليه بحجج واهية.
موقف المرصد: انتهاك واضح لحقوق المتهمين ولقيم العدالة
يعتبر مرصد الحرية لتونس قرار المحاكمة عن بُعد محاولة لتكريس قضاء مُوجَّه يعمل وفق التعليمات السياسية للرئاسة، وليس وفق المبادئ القانونية النزيهة. فالهدف الحقيقي لهذا الإجراء هو منع الرقابة الشعبية والإعلامية على مجريات المحاكمة، وإخفاء هشاشة الملف القضائي المُلفّق ضد المعارضين.
يرى المرصد الحقوقي أن هذا القرار يشكل خطرًا جسيمًا على استقلالية القضاء وحقوق الإنسان في البلاد. فمحاكمة شخصيات سياسية بتهم واهية او زائفة دون السماح لهم بالمثول أمام المحكمة مباشرة يُعد ضربًا لمبدأ المواجهة الحضورية، أحد أعمدة المحاكمة العادلة.
تونس أمام مفترق طرق خطير
إن قرار المحاكمة عن بعد في قضية “التآمر على أمن الدولة” يُمثل سابقة خطيرة تهدد مسار العدالة في تونس، ويؤكد استخدام القضاء كوسيلة للانتقام السياسي. ويطالب مرصد “الحرية لتونس” السلطات بالتراجع الفوري عن هذا القرار الجائر، وتمكين المتهمين من حقهم في المثول الفعلي أمام المحكمة، وضمان محاكمة علنية شفافة تحترم المعايير القانونية الدولية وتمكين وسائل الاعلام من التغطية ونقل الوقائع وسير الجلسات.